الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد

فهذا هو الجزء الثاني في ردي على الأخ الكريم جميل خياط حيث كان الرد السابق حول كلامه عن حديث صيام الست من شوال وقد أردف أخونا كلامه عن الحديث باستنكاره دعاء الختم الذي يفعله أئمة الحرمين الشريفين وجل أئمة مساجد المملكة التي تتحرى ختم القرآن في صلاة التراويح .

ولاشك أن استنكاره هذا الأمر أهون بكثير من كلامه عن حديث صيام الست لأنه مسبوق فيه من علماء وطلبة علم ونحن نحترم دائما الخلاف المبني على أصول وله حظ من النظر بعكس ما لم يكن كذلك . إلا أنه بالغ في الإنكار فادعى دعاوى عريضة في عدم نقل شيء من ذلك لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا التابعين وأنه لم يأت في حديث ولا أثر .... إلخ هذه المنظومة فأخطأ في ذلك أيما خطأ .

ومن دوافعي لاستكمال الرد ما وصلني من أحد الإخوة المقربين مني حيث قال : كما رددت عليه فيما قال من الباطل فأيده فيما قال من الحق .. وذلك ظنا منه أن الأخ خياطا قد أصاب في استنكاره موضوع الختم .

وللرد على هذا الاستنكار نقول :

أولا : إن الصلاة أساسا شرعت للذكر والدعاء وقراءة القرآن بنص الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجميعها محل لذلك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن ساجدا وراكعا . فليس هناك ما يمنع شرعا من هذا الدعاء في ذلك الموضع .

ثانيا : إن الدعاء قبل الركوع مشهور ومعروف وثابت في الصحيحين من حديث أنس في القنوت والقنوت ما هو إلا دعاء أيا كان سببه ، وهذا يؤكد أن هذا المحل من المحلات المشروعة للدعاء .

ثالثا : لم تكن صلاة التراويح معروفة على زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولذا لم يكن ثم ختم للقرآن في الصلاة حتى ينقل لنا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدي فيه ، ولكن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعارض جبريل القرآن كل سنة فهل كان يدعو للختم ؟ الجواب : لاشك في ذلك والدليل أنه ثابت في قراءة ابن كثير المتواترة من القراءات السبع كما يأتي بيانه وعليه فلا فرق بين داخل الصلاة وخارجها وسيأتي أيضا نصا من رواية أبي بن كعب .

رابعا : أول من جمع الناس على التراويح عمر رضي الله عنه ولكن هل كانوا يتحرون ختم القرآن في صلاتهم أم لا ؟ لم ينقل نص في ذلك إلا أنهم كانوا يقرؤون قراءة طويلة بالمائين ونحوها .

ويبدو أنهم كانوا يفعلونه لما سيأتي عن أبي بن كعب وقد كان هو قارئهم ويؤكده نقل الإمام أحمد فعل ذلك عن أهل مكة ومعهم سفيان بن عيينة وكان ذلك في القرن الهجري الثاني فالعهد قريب ولا يعقل أن يجمع أهل مكة على هذا الفعل بعلمائهم وكبرائهم من غير نكير من أحد بل بإقرار منقول عن كبارهم كابن عيينة إلا بنقل معتبر وهو ما يأتي من ثبوت ذلك بإسناد قراءة أهل مكة المتواترة .

ثم نقل ذلك أيضا عن أهل البصرة وأهل المدينة وغيرهم كما يأتي .

خامسا : إن دعاء المقرئ عند ختم القرآن بعد أن ينتهي من المعوذتين وقراءة الفاتحة وخمس آيات من أول البقرة قد أشكل على البعض والسبب أنهم من غير المتخصصين في علم القراءات ولتوضيح هذا الإشكال نسوق هاتين النقطتين :

الأولى : يجب التنبه إلى أن أمور القراءات يبحث عنها في الكتب المتخصصة بها لا في كتب الحديث ونحوها ،  وقد ورد ما تقدم نصا في قراءة إمام قراء مكة ابن كثير رحمه الله من روايتي البزي وقنبل وغيرهما ، وهي قراءة من القراءات السبع المتواترة التي اتفقت الأمة على ثبوتها ومن طعن فيما جاء بها فتح بابا للطعن في القرآن الكريم جملة ، لأنه لا فرق بين نقل أصول وحروف تلك القراءة وبين نقل هذا الدعاء بهذه الكيفية فالطرق واحدة والأسانيد هي عينها .

ولنتخيل شخصا يبحث عن ألفاظ القرآن هل رواها البخاري رحمه الله أو مسلم في صحيحيهما ليثبت صحتها فهل هذا معقول ؟

ثانيا : قد ذكر الحافظ أبو عمرو الداني أن لابن كثير في فعله هذا دلائل من آثار مروية ورد التوقيف فيها عن النبي r وأخبار مشهورة مستفيضة جاءت عن الصحابة والتابعين والخالفين . وأفرد الإمام ابن نصر المروزي بابا في استحباب الدعاء عند ختم القرآن بعد انتهائه من أبواب صلاة التراويح في رمضان فساق فيه بعض الآثار التي سنذكرها هنا .

وهذا الذي ذكره أبو عمرو نفصله بإيجاز فيما يلي :

أما مجيؤه مرفوعا فقد روي عن :

أبي بن كعب عنه r أنه كان إذا قرأ قل أعوذ برب الناس افتتح من الحمد ثم قرأ من البقرة إلى وأولئك هم المفلحون ثم دعا بدعاء الختمة ثم قام .

أخرجه الدارمي وأبو عمرو الداني والحافظ أبو العلاء الهمداني وغيرهم وفيه اختلاف في إسناده وقد حسنه أبو عمرو ، والسيوطي .

جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله r : من قرأ القرآن كانت له عند الله دعوة مستجابة إن شاء الله عجلها له في الدنيا وإن شاء ادخرها له في الآخرة .

أخرجه الطبراني وغيره

عن العرباض بن سارية مرفوعا : من ختم القرآن فله دعوة مستجابة .

أخرجه الطبراني وغيره

أنس بن مالك عن النبي r قال : مع كل ختمة دعوة مستجابة .

أخرجه البيهقي وغيره

وعنه أن النبي r كان إذا ختم القرآن جمع أهله . قال البيهقي : رفعه وهم والصحيح عن أنس موقوفا .

عن ابن عباس قال : قال رسول الله r : من استمع حرفا … ومن قرأه فختمه كتبت له عند الله دعوة مستجابة معجلة أو مؤخرة .

أخرجه ابن عدي والبيهقي وغيرهما

عن داود بن قيس رحمه الله قال : كان رسول الله r يقول عند ختم القرآن : اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماما ونورا وهدى ورحمة اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار واجعله لي حجة يارب العالمين .

رواه الأرجاني في فضائل القرآن وأبو بكر بن الضحاك في الشمائل

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله r : من قرأ القرآن وحمد الرب وصلى على النبي r واستغفر ربه فقد طلب الخير من مكانه . رواه البيهقي في الشعب .

وعنه قال : كان رسول الله r إذا ختم القرآن دعا قائما . أخرجه ابن الجوزي في الوفا .

وعن علي بن الحسين زين العابدين عن النبي r أنه كان إذا ختم القرآن حمد الله بمحامد وهو قائم ثم يقول : الحمد لله رب العالمين …فذكر دعاء طويلا . أخرجه البيهقي في الشعب .

وهذه وإن كانت كلها لا تخلو من مقال فهي تدل بمجموعها على أصل ذلك .

وأما الآثار :

فعن أنس بن مالك أنه كان يجمع أهله وجيرانه عند الختم ويدعو بهم . أخرجه ابن الضريس والطبراني وغيرهما وروي مرفوعا وقال البيهقي : الصحيح عن أنس موقوفا.

عن قتادة قال : كان بالمدينة رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره على أصحاب له في المسجد فكان ابن عباس يضع عليه الرقباء فإذا كان عند الختم جاء ابن عباس فشهده .

عن ابن مسعود : من ختم القرآن فله دعوة مستجابة . رواه ابن أبي داود في فضائله.

عن مجاهد : تنزل الرحمة عند ختم القرآن . وعنه : إن الدعاء مستجاب عند ختم القرآن .

وعن الحكم قال : أرسل إلي مجاهد وعنده ابن أبي لبابة قال : إنما أرسلنا إليك أنا نريد أن نختم القرآن وكان يقال : إن الدعاء مستجاب عند ختم القرآن . فلما فرغوا من ختم القرآن دعا بدعوات .

عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يستحبون إذا ختموا القرآن أن يقرءوا من أوله آيات .

وعن ابن المبارك أنه كان يعجبه إذا ختم القرآن أن يكون دعاؤه في السجود .

وكان البخاري رحمه الله يختم عند الإفطار كل ليلة في رمضان ويقول : عند كل ختم دعوة مستجابة .

وقال حنبل : سمعت أحمد يقول في ختم القرآن : إذا فرغت من قراءتك قل أعوذ برب الناس فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع . قلت : إلى أي شيء تذهب في هذا ؟ قال : رأيت أهل مكة يفعلونه وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة .

قال عباس بن عبد العظيم : وكذلك أدركت الناس بالبصرة وبمكة وروى أهل المدينة في هذا أشياء وذكر عن عثمان بن عفان .

وفي كتاب الفروع لابن مفلح قال : ولا يقرأ الفاتحة وخمسا من البقرة نص عليه . قال الآمدي : يعني قبل الدعاء . وقيل : يستحب .

وقال ابن الجزري : وصار العمل على هذا في أمصار المسلمين في قراءة ابن كثير وغيرها وقراءة العرض وغيرها حتى لا يكاد أحد يختم ختمة إلا ويشرع في الأخرى … بل جعل ذلك عندهم من سنة الختم ويسمون من يفعل هذا الحال المرتحل أي الذي حل في قراءته آخر الختمة وارتحل إلى ختمة أخرى … وهو الذي يدل عليه تفسير الحديث عن النبي r : أفضل الأعمال الحال المرتحل .

وهذا الحديث رواه الترمذي والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وابن الجزري في النشر وغيرهم وزاد في بعض طرقه : وما الحال المرتحل ؟ قال : فتح القرآن وختمه صاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره ومن آخره إلى أوله كلما حل ارتحل .

وقد صوب الترمذي إرساله وقطع مكي بن أبي طالب بصحته وأيده ابن الجزري بذكر طرقه ومتابعاته .

وقال ابن الجزري : ومن الأمور المتعلقة بالختم الدعاء عقيب الختم وهو أهمها وهو سنة تلقاها الخلف عن السلف .

وليس ذلك بلازم لكل قارئ بل الأمر كما قال فارس بن أحمد وغيره : من فعله فحسن ومن لم يفعله فلا حرج عليه .

والذي أستحسنه وأفعله وأنصح به أن يرجئ قراءة المعوذات التي هي نهاية الختم إلى ركعة الوتر فيدعو بدعاء الختم بعدها قبل أن يركع فيكون دعاء وتره ودعاء ختمه واحدا وفي هذا جمع لطيف بين وجهتي النظر والله تعالى أعلم .