سلسلة الرسائل العلمية

         ( 2 )

 

الصيحة الحزينة

في الْبَلَدِ اللَّعِيْنَةِ

رسالةٌ في حُكْمِ زيارةِ مدائِنِ صالحٍ وما شابَهَها

 

 

تأليف

الشيخ / محمدُ بنُ رِزْق بنِ طَرْهُوني

 

 

دار ابن القيم للنشر والتوزيع

 

تمرير أفقي: اقرأ في هذه الرسالة : 
ـ نبذة عن لعنة الفراعنة ومثلث برمودا ومثلث فرموزا .
ـ ملحق هام فيه كلام البيهقي والإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية يتعلق بموضوع الرسالة .
ـ تعقيب على رسالة للشيخ عبد الله آل محمود رئيس المحاكم الشرعية بقطر والمسماة " حجر ثمود
 ليس حجراً محجوراً " .
 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذا البَحْثُ في حُكْمِ زيارةِ الأماكِنِ التّالِيَةِ وما يُشابِهُها :

* ( الحِجْرُ ) : وهو دِيارُ قومِ ثمودَ المنحوتةُ في الجبالِ ، وهي بينَ المدينةِ وتبوكَ ، على بُعْدِ  ( 450 ) خمسين وأربَعمائَةِ كيلومتر من المدينةِ ، بالقُربِ من منطقةٍ تُسمَّى ( العلا ) ، وصورةُ أحَدِ المساكنِ على الغِلافِ . وقد أُهْلِكَ أهلُها بالصَّيْحَةِ .

قال تبارك وتعالى في سورة الحجر: ¼ `?TWÍVÖWè ð?PV¡VÒ ñ?HTTW?p²KV? X£`�Y?<Ö@? WÜkYÕWªó£SÙ<Ö@? »(80) ([1]). وقِصَّةُ ثمودَ مَعَ نبيِّ اللهِ صالحٍ في عِدَّةِ مواضِعَ من القرآنِ الكريمِ .

* ( مَدْيَنُ ) : وهي أرضُ قومِ شُعَيْبٍ النبيِّ ، وقد أَخَذَتْهُم الرَّجْفَةُ ، وهي تَقَعُ على بحرِ القُلْزُمِ محاذِيَةً لتبوكَ ، على نحوٍ من سِتِّ مراحلَ ، وهي الآنَ على حدودِ السعوديةِ .

قال تبارك وتعالى في سورة الأعراف : ¼ uøVÖMX?Wè fÛW     Tÿ`?TWÚ `ØSå?W?KV? %?_T?`~TWÅS® » ([2]) . وقد أُهْلِكَ أهلُها  بالرَّجْفَةِ ، قال تبارك وتعالى في سورة الأعرافِ : ¼ SØSäpTT?W¡W?VK?WTÊ SàWÉ`�QW£Ö@? N?éS?W?p²VK?WTÊ Á `ØYåX¤?W  fû      kYÙY�HTWT� »(91)([3]) .

* ( وادي مُحّسِّرٍ ) : وسيأتي في البحثِ إن شاءَ الله .

* ( بحيرةُ قارونَ ) : وهي المكانُ الذي خُسِفَ فيه بقارونَ ، وهي منطقةٌ مشهورةٌ بذلك ، وتقَعُ بالقربِ من الفَيّومِ بمصرَ .. قال تبارك وتعالى في سورةِ القصصِ : ¼ ?WTÞpTÉW©W?WTÊ -YãYT? YâX¤?W?YT?Wè ð³`¤KKV?ô@? » ([4]) .

* ( البَحْرُ الميتُ ) أو ( بحرُ لوطٍ ) : وهو المكانُ الذي خُسِفَ فيه بقريةِ ( سدوم ) التي كان فيها قومُ لوطٍ عليه الصلاةُ والسلامُ ، وتقَعُ في الأردُنْ ، وهي منطقةٌ مشهورَة . قال تبارك وتعالى في سورة الحجر :  ¼ ?WTÞ<ÕWÅW�WTÊ ?WäW~YÕHTTWÆ ?WäVÕYÊ?Wª ?WTßó£ð¹`ÚKV?Wè `ØXä`~VÕWÆ ^áW¤?W�Y? ÝYQÚ \Ô~QX�gª »(74)([5]) .

وغيرُ ذلكَ من البقاعِ ، مثلُ خَسْفِ ( بابل ) كما سيأتي في البحثِ إن شاء الله تبارك وتعالى .


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله نحمَدُه ونستَعينُه ونستَغفِرُه ، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا ، من يهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له . وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ ، وحدَه لا شريكَ له ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه .

أما بعدُ :

فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ r ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتُها ، وكلَّ محدَثةٍ بدعَةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ .

فتلبيةً للنداءِ الداخليِّ ، الذي ينْبَعِثُ من نِياطِ قلبي ، والذي يرتَفِعُ صوتَه ويرتَفِعُ كلَّما عَنَتْ لنا قضيةٌ بدا فيها الحقُّ في سَتْرٍ عن الأنظارِ ، واحْتيجَ لرفْعِ هذا السِّتارِ ، لمعرفةِ ما يُقَرِّبُ من الجنةِ وما يباعِدُ من النارِ ؛ كَتبْتُ هذا البحثَ المختصَرَ ، غيرَ المُخِلِّ – فيما يبدو لي – للفَصْلِ في ذلكَ الأمْرِ الخطيرِ الذي يتهافَتُ عليه الناسُ ، وللأسَفِ كثيرٌ من طلابِ العلمِ وشيوخِهِم .

ومما دَفَعَني لذلكَ : أني وَجَدْتُ كثيراً منهم لم يقرأْ شيئاً عن هذهِ المسألةِ ، بل فُوجِئَ بعضُهم ببعضِ ما سُقْتُهُ من أدلَّةٍ فيها ، ودارَ النقاشُ بيني وبينَ البعضِ .. وسَيَتَبَيَّنُ ذلكَ أثناءَ قراءَتِكَ للرِّسالَةِ أيها القارئُ الكريمُ ، مما دَفَعَ بعضَ الإخوانِ إلى الإلحاحِ عليَّ في كتابَةِ هذا البحثِ ، وتسْجيلِ بعضِ ما قُلتُهُ أثناءَ تِلكُمُ المناظراتِ ، فكانَ هذا البحثُ الذي يدورُ في موضوعِ زيارَةِ ديارِ ثمودَ ، عليهم لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ ، وزيارةِ كلِّ مكانٍ حَلَّتْ به لعنةُ اللهِ ونِقْمتُه وغَضَبُه ، فكان صيحةً لإنقاذِ الواقعينَ في هذا الخطرِ العظيمِ حزينةً ، لكَثْرَةِ المنافِحينَ عن هذا العمَلِ المشينِ ، فسَمَّيْتُه ( الصيحةُ الحزينةُ ) لأجلِ ذلكَ ..

وأرجو أن ينفَعَني اللهُ به وإياكم ، وأن يجعَلَنا ممن يَتَّبِعُ الحقَّ حيثُما كانَ ، ومن أيِّ شخصٍ كانَ ، وأما من نَكَبَ عن الجادةِ ، وحادَ عن الصِّراطِ ، وكابر عن قبولِ الحَقِّ ، فنقولُ له :

دَعْهُمْ يَزْعُمونَ الصًّبْحَ ليلاً                 أيَعْمَى العالِمونَ عن الضِّياءِ

محمد بن رزق بن الطرهوني

1303هـ

المدينة المنورة ص . ب . 1783


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله وآلِه وصَحْبِه أجمعينَ .

أما بعدُ :

فبما أن اللهَ سبحانَه وتعالى مَنَّ علينا بإرسالِ نبيِّه المصطفى r ، وجَعَلَه خاتَمَ النَّبيينَ ، وسيدَ وَلَدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فَخْرَ ، وأَمَرَنا باتِّباعِ هَديِه والاسْتِنَانِ بسنته ، وجَعَلَه المبيِّنَ لكتابه الكريمِ ، والمطَبِّقَ لحدودِه وأوامِرِه ونواهِيه ، على أكْمَلِ وجهٍ ؛ فلمْ يُفَرِّطْ في شيءٍ من الرسالةِ ، بل بَلَّغَها كاملةً متكامِلَةً ، وتَرَكَنا على مَحَجَّةٍ بيضاءَ ، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ .

فالواجبُ علينا – نحنُ المسلمينَ – شكرُ هذه النعمةِ ، التي لا تضاهيها نعمةٌ ، فنَتَّبِعُ هذا النبيَّ الأُمِّيَّ ونَحْذو حَذْوَهُ ، ونَقتَفِيَ أثرَه ، قال تبارك وتعالى :  ¼ `?TWÍVPÖ WÜ?VÒ óØRÑVÖ Á YÓéSªW¤ JðY/@? dáWéT`ªRK? bàWÞTW©W? ÝWÙPYÖ WÜ?VÒ N?éS�ó£WTÿ WJð/@? W×óéTW~<Ö@?Wè W£TY????@? W£W{V¢Wè JðW/@? ?_¤kY�VÒ »(21) ( الأحزاب : آية 21 ) .

وقال تبارك وتعالى : ¼ :?WTÞ<ÖW¥ßKV?Wè ðÐ`~VÖMX? W£T`{PY¡Ö@? WÜPXkW?S?YÖ X§?PVÞÕYÖ ?WÚ WÓQX¥STß óØXä`~VÖXM? `ØSäPVÕWÅVÖWè WÜèS£PVÑWÉW?WTÿ » ( النحل : 44 ) .

وقال تبارك وتعالى :  ¼ `ÔSTÎ ÜMX? `yS?ÞRÒ WÜéQS?Y?ST? JðW/@? øYTßéSÅY?PVT?@?WTÊ SØRÑ`?Y?`?STÿ JðS/@? ó£YÉpTTçÅWTÿWè `yRÑVÖ p%yRÑW?éSTßS¢ SJðJðS/@?Wè c¤éSÉWTçÆ cy~Y?QW¤ »(31) ( آل عمران : 31 ) وغيرُ ذلكَ كثيرٌ .

فسَأَبْدأُ بعَوْنِ الله في سَرْدِ أفعالِه r عندما مَرَّ على هذهِ المنطقَةِ الملعُونَةِ ، وكيف كان هديُه r في ذلكَ ، مُعَضِّداً سَرْدَ الأحاديثِ بشرحِ أجِلَّةِ العلماءِ الجهابِذَةِ . واللهُ الموَفِّقُ والهادي إلى سواءِ السَّبيلِ .

( 1 ) روى الإمامُ البخاريُّ رحمه الله تعالى في صحيحه بسندِه عن عبدِ الله بن عُمَرَ t أن رسولَ الله r قال : " لا تَدْخُلوا على هؤلاءِ المعذَّبينَ إلا أن تكونوا باكينَ .. فإنْ لم تَكونوا باكينَ فلا تدخُلوا عليهِم ؛ لا يصيبُكم ما أًصابهم " [ ذكره البخاريُّ في كتابِ الصلاةِ ، بابُ الصلاةِِ في مواضِعِ الخَسْفِ والعَذابِ ]([6]) .

( 2 ) وروى البخاريُّ عن ابنِ عُمَرَ t : ( أن رسولَ الله r لما نَزَلَ الحِجْرَ في غزوةِ تبوكَ ، أمَرَهُم أن لا يَشْرَبوا من بِئارِها ، ولا يَسْتَقُوا منها ، فقالوا : قد عَجَنّا منها واستَقَيْنا ، فأمرَهُم أن يَطْرَحوا ذلكَ العجينَ ، ويُهْرِيقوا ذلكَ الماءَ )([7]) .

( 3 ) وروى أيضاً عنه : ( أن الناسَ نزلوا مَعَ رسولِ الله r أرضَ ثمودَ [ الحِجْرَ ] واسْتَقُوا من بِئْرِها ، واعْتَجَنُوا به .. فأمَرَهم رسولُ الله r أن يُهْريقُوا ما اسْتَقُوا من بئارِها ، وأن يَعْلِفوا الإبِلَ العَجينَ ؛ وأمَرَهُم أن يستَقُوا من البئرِ التي كانتْ تَرِدُها الناقةُ )([8]) .

( 4 ) وروى عنه أيضاً : ( أن النبيَّ r لما مَرَّ بالحِجْرِ ، قال : " لا تَدْخُلوا مساكِنَ الذين ظَلَمُوا أنفُسَهُم إلا أن تكونوا باكينَ ؛ أن يُصيبَكُم ما أصابهم " . ثم تَقَنَّعَ برِدائِهِ وهو عَلى الرَّحْلِ )([9]).  

( 5 ) وروى عنه أيضاً : " لا تَدْخُلوا مَساكِنَ الذينَ ظلموا أنفُسَهُم إلا أن تكونوا باكينَ ؛ أن يُصيبَكُم ما أصابَهم " . وهذه الرواياتُ ذَكَرَها البُخارِيُّ في " كتابِ الأنبياءِ " في صحيحه([10])  

( 6 ) وروى عنه أيضاً : ( لما مَرَّ النبيُّ r بالحِجْرِ قال : " لا تدخُلُوا مَساكِنَ الذين ظلَمُوا أنفُسَهُم أن يُصِيبَكُم ما أًصابَهم إلا أن تكونوا باكينَ " . ثم قَنَّعَ رأسَه وأسْرَعَ السَّيْرَ ، حتى أجازَ الوادي ) . [ ذكَرَه في كتابِ المغازي ، بابُ نزولِ النبيِّ r الحجرَ ]([11]) .

 ( 7 ) وروى عنه أيضاً : أن رسولَ الله r قالَ لأصْحابِ الحِجْرِ : " لا تدخُلوا على هؤلاءِ القومِ إلا أن تَكونُوا باكينَ . فإن لم تكونوا باكينَ فلا تدخُلوا عليهِم ؛ أن يصيبَكُم مثلُ ما أصابَهُم " . [ ذكره في كتابِ التفسيرِ ، باب : ولقدْ كذبَ أصحابُ الحِجْرِ المرسَلينَ ]([12]) وروى  مسلمٌ الحديثَ السابِقَ بزيادةِ ( المعذَّبينَ ) ، ورواه بروايةٍ مختلِفَةٍ .

( 8 ) عن ابنِ عُمَرَ t قال : ( مَرَرْنا مع رسولِ الله r على الحِجْرِ ، فقال لنا رسولُ الله r : " لا تَدْخُلُوا مساكِنَ الذين ظَلَموا أنفُسَهُم إلا أن تكونوا باكينَ ، حَذَراً أن يصيبَكم مثلُ ما أصابهم " . ثم زَجَرَ فأسْرَعَ حتى خَلَّفَها .

( 9 ) وعنه : ( أنَّ الناسَ نزلوا معَ رسولِ الله r الحجرَ [ أرضَ ثمودَ ] فاستَقَوْا من آبارِها وعَجَنُوا به العجينَ ، فأمَرَهُم رسولُ الله r أن يُهريقُوا ما اسْتَقَوْا ، ويَعْلِفُوا الإبِلَ العَجينَ ، وأمَرَهُم أن يَسْتَقُوا من البئرِ التي كانت تَرِدُها الناقَةُ ) .

[ ذَكَرَهُم الإمامُ مسلمٌ رحمه الله تعالى بسَنَدِه في صحيحِه ، في بابِ النَّهيِ عن الدُّخولِ على أهلِ الحِجْرِ ، إلا مَنْ يدخُلُ باكياً ، من كتابِ الزُّهْدِ ]([13]) .

( 10 ) وقال الإمامُ أحمدُ رحمه الله تعالى([14]) : ثنا عبدُ الصَّمَدِ ، ثنا صَخْرُ بنُ جُويرِيةَ ، عن  نافِعٍ ، عن ابنِ عُمَرَ ، قال : نَزَلَ رسولُ الله r بالناسِ عامَ تبوكَ [ نَزَلَ بهم الحِجْرَ ، عندَ بُيوتِ ثمودَ ] فاسْتَقَى الناسُ من الآبارِ التي كانَ يشرَبُ منها ثمودُ ، فعَجَنُوا منها ، ونَصَبوا القُدورَ باللَّحْمِ . فأَمَرَهُم رسولُ الله r فأهْراقُوا القُدورَ ، وعَلَفُوا العَجينَ الإبِلَ . ثم ارْتَحَلَ بهم ، حتى نزلَ بهم على البئرِ التي كانتْ تشربُ منها الناقةُ ونهاهُمْ أن يَدْخُلوا على القومِ الذينَ عُذَّبُوا ، قال : " إني أخشى أن يُصيبَكُم مثلُ ما أصابهم ، فلا تدخُلوا عليهم " . وإسنادُه صحيحٌ . قال ابنُ كثيرٍ في : " البدايةِ والنهايةِ " : ( وهذا الحديثُ على شرطِ الصَّحِيحَيْنِ من هذا الوجهِ ، ولم يُخَرِّجُوه )([15]) .

( 11 ) وقال الإمامُ أحمدُ : ثنا يزيدُ بنُ هارونَ ، أنا المسعودِيُّ ، عن إسماعيلَ بنِ أوسطٍ ، عن محمدِ بنِ كَبْشَةَ الأنمارِيِّ ، عن أبيه ، قال : ( لما كان في غزوةِ تبوكَ ، تَسارَعُ الناسُ إلى أهلِ الحِجءرِ يدخُلونَ عليهم ، فبلغَ رسولَ الله r ، فنادى في الناسِ : " الصلاةُ جامِعةٌ " ، قال : فأتيتُ النبيَّ r وهو مُمْسِكٌ بَعيرَه ، وهو يقولُ : " عَلامَ تَدخُلونَ على قومٍ غَضِبَ اللهُ عليهم " ؟ فناداه رجلٌ منهم : نَعْجَبُ منهم يا رسولَ الله ، قال : " أفلا أُنَبِّئُكُمْ بأعْجَبَ من ذلكَ ، رجلٌ مِنْ أنفُسِكُم يُنَبِّئُكم بما كانَ قبلَكُم ، وما هُوَ كائنٌ بعدَكُم ! فاستَقِيموا وسدِّدُوا ، فإنَّ اللهَ U لا يعبَأُ بعَذابِكُم شيئاً ، وسيأتي قومٌ لا يَدْفَعُون عن أنفُسِهِم بشيءٍ "([16]) .

ورواه كذلكَ الإمامُ أحمدُ ، قال : حَدَّثَنا هاشمُ بنُ القاسمِ ، ثنا الْمَسْعُودِيُّ ، عن إسماعيلَ بنِ أوسطٍ ، عن محمدِ بنِ أبي كبشةَ الأنماريِّ عن أبيهِ به([17]) .

ورواه الإمامُ البُخاريُّ في " التاريخ الكبير " مختصراً ، في ترجمةِ إسماعيلَ بنِ أوسطٍ ، فقال : قال لنا عَمْرُو بنُ مرزوقٍ ، عن المسعوديِّ ، عن إسماعيلَ بنِ أوسطٍ البَجَلِيِّ ، عن ابنِ أبي كبشةَ ، عن أبيه ، قال : ( كنا مع النبيِّ r في غزوةِ تبوكَ )([18]) .

ورواه الطبرانيُّ في " الكبيرِ "([19]) ، والدُولابيُّ في " الكنى "([20]) من طرقٍ عن المسعوديِّ به . 

ورواه أيضاً البيهقِيُّ في " دلائِلِ النبوةِ " من طريقِ المسعودِيِّ ، عن إسماعيلَ بنِ أوسطٍ ، عن محمدِ بنِ أبي كبشةَ ، عن أبيه ، قال : ( لما كان في غزوةِ تبوكَ ، تسارَعَ القومُ إلى الحِجْرِ ، فأتَيتُ رسولَ الله r وهو مُمْسِكٌ بعيرَه ، وهو يقولُ : " علامَ تدخُلُونَ على قومٍ غَضِبَ الله عليهِم ؟ " الحديث ذَكَرَه ابنُ حَجَرَ في الإصابةِ في ترجمةِ أبي كبشةَ الأنماريِّ([21]) ، وكذا ابنُ القيِّمِ  رحمه الله في زادِ المعادِ عن البيهقي([22]) .

وهذا الحديثُ : حديثٌ حَسَنٌ ، ويَشهَدُ له ما تقدَّمَ من الأحاديثِ ، وبعضُ ألفاظِهِ يشهَدُ لها نصوصٌ أخرى عامَّةٌ , وقد رواه عن المسعوديِّ : عَمْرو بنُ مرزوقٍ ، شيخُ البخاريِّ ، ولم يُذْكَرْ فيمَنْ دخلوا بغدادَ . ورواه عنه أيضاً يزيدُ بنُ هارونَ ، وهاشمُ بنُ القاسمِ ، وإسماعيلُ بنُ عَيّاش ، وجعفَرُ بنُ عونٍ ، وعبدُ الله بنُ رجاءٍ ، وبَكّارُ بنُ قُتيبةَ : أبو بكرٍ القاضي .

وقال فيه ابنُ كثيرٍ رحمه الله بعد أن ساقَهُ من طريقِ الإمامِ أحمدَ : إسنادُه حسنٌ ، ولم يُخَرِّجوه([23]) .  

قال الإمامُ ابنُ حَجَرَ في شرحِهِ على البخاريِّ ، في الحديثِ الأولِ ، وقدْ عَلَّقَ البخاريُّ قبلَ ذِكرِه أثراً بصيغَةِ التَّمريضِ([24]) فقال : ويُذْكَرُ أن عَلياً r كَرِهَ الصلاةَ بخَسْفِ بابل ، قال ابنُ حجرَ  : هذا الأثَرُ رواه ابنُ أبي شيبةَ ، من طريقِ عبدِ الله بنِ المحل ، قال : كُنّا مع عليٍّ على الخسْفِ الذي ببابِلَ ، فلمْ يُصَلِّ حتى أجازَهُ [ أي تَعَدّاه ] . ومن طريقٍ أخرى عن عليٍّ ، قال : ( ما كنتُ لأصلي في أرضٍ خَسَفَ الله بها ) ثلاثَ مراتٍ . وأرادَ أنَّ علياً قال ذلكَ ثلاثاً .

ورواه أبو داودَ مَرْفوعاً ، من وجهٍ آخَرَ ، عن عَلِيٍّ ، ولفظُه : ( نهاني حبيبي r أن أصليَ في أرضِ بابِل ، فإنها ملعونةٌ ) وفي إسنادِه ضَعْفٌ([25]) .  

قلتُ : فهذه ثلاثَةُ طُرُقٍ عن عَليٍّ ، مختلِفَةٌ ، تُوضِحُ أن هذا الأثَرَ له أَصْلٌ موقوفٌ .

ثم قال ابنُ حَجَرَ : قولُه : " إلا أن تكونوا باكينَ " ليسَ المرادُ الاقْتِصارُ في ذلكَ على ابتداءِ الدُّخُولِ ، بلْ دائماً عندَ كُلِّ جُزءٍ من الدُّخولِ .. وأما الاسْتِقْرارُ فالكَيفِيَّةُ المذكورةُ مطلوبةٌ فيه بالأوْلَوِيَّةِ ، وسيأتي أنه r لم ينزِلْ فيه البتة .

وقال : والحديثُ مطابِقٌ له ( أيْ لأَثَرِ عليٍّ ) من وِجْهَةِ أن كلاً منهما فيه تركُ النزولِ ، كما وقعَ عندَ المصنِّفِ في المغازي في آخرِ الحديثِ ؛ ( ثم قَنَّعَ رأسَه r ، وأسْرَعَ السَّيْرَ حتى أجازَ الوادي ) فدَلَّ على أنه لم يَنْزِلْ ، ولم يُصَلِّ هناكَ ، كما صَنَعَ عليٌّ في خَسْفِ بابلَ([26]) . قوله  " لا يُصيبُكُمْ " بالرَّفْعِ ، على أنَّ ( لا ) نافيةٌ ، والمعنى : لِئَلا يُصيبكم ، ويجوزُ الجزمُ على أنها ناهيةٌ ، وهو أَوْجَهُ ، وهو نَهْيٌ بمعنى الخَبَرِ .

وللمصَنِّفِ في أحاديثِ الأنبياءِ ( أن يُصيبَكُم ) أي : خَشيَةَ أن يصيبَكُم ، ووَجْهُ هذه الخَشيَةِ : أن البُكاءَ يَبْعَثُهُ على التَّفَكُّرِ والاعْتِبارِ ، فكأنه أمَرَهُم بالتفَكُّرِ في أحوالٍ توجِبُ البكاءَ ، مما وَقَعَ فيه أولئكَ من الكفرِ ، مع تمكينِ الله لهم في الأرضِ ، وإمهالِهِم مدةً طويلةً ، ثم إيقاعِ نِقمَتِه بهم وشِدَّةِ عذابِه ، وهو سبحانَه مُقَلِّبُ القلوبَ ، فلا يَأْمَنُ المؤمنُ أن تكونَ عاقبتُه إلى مثلِ ذلكَ ، والتَّفَكُّرُ أيضاً في مقابلةِ أولئكَ نعمةَ الله بالكفرِ ، وإهمالِهِم إعمالَ عقولِهم فيما يوجِبُ الإيمانَ به والطاعةَ له .

قال : فمَنْ مَرَّ عليهم ، ولم يَتَفَكَّرْ فيما يُوجِبُ البكاءَ اعتِباراً بأحوالهم ، فقد شابَهَهُم في الإهمالِ ، ودلَّ على قساوةِ قلبِه ، وعدمِ خُشوعِه ، فلا يأمنْ أن يَجُرَّهُ ذلك إلى العملِ بمثلِ أعمالِهم ، فيصيبَه ما أصابهم . قال : وفي الحديثِ : الحثُّ على المراقبةِ ، والزَّجْرُ عن السُّكنى في ديارِ المعذَّبينَ ، والإسراعُ عندَ المرورِ بها ، وقد أُشيرَ إلى ذلك في قولِه تبارك وتعالى : ¼ óØS?ÞVÑWªWè Á XÝY|HTW©WÚ WÝÿY¡PVÖ@? N?;éTSÙWTÕVÀº `ySäW©SÉßKV? fûQW      kTW?WT?Wè óØRÑVÖ ðÈ`~ðÒ ?WTÞ<ÕfTTTTÅWTÊ `yXäY? .. » ([27]) ( إبراهيم : 45 ) .  

وأما الحديثُ الثاني ، والثالثُ ، والرابعُ ، والخامسُ ، فقال ابنُ حَجَرَ في شرحِهم : وفي الحديثِ كراهةُ الاسْتِقَاءِ من بيارِ ثمودَ ، ويَلْتَحِقُ بها نظائرُها من الآبارِ والعيونِ ، التي كانتْ لمن هَلَكَ بتعذيبِ الله تعالى على كُفرِه .. واخْتُلِفَ في الكراهةِ المذكورةِ : هل هي للتَّنْزِيهِ أو للتَّحريمِ ؟ وعلى التحريمِ : هل يمتَنِعُ صحةُ التطهرِ من ذلكَ الماءِ أم لا ؟ قلتُ : الأصلُ في النَّهيِ التحريمُ ، حتى يوجَدَ صارفٌ ، ولا صارفٌ([28]) .

قال ابنُ حَجَرَ : قوله : " لا تدخلوا مساكِنَ الذين ظلموا أنفسَهم " . وهذا يتناوَلُ مساكنَ ثمودَ وغيرِهم ، ممن هو كَصِفَتِهِم ، وإن كانَ السَّبَبُ وَرَدَ فيهم([29]) .

وقال النوويُّ في شرحِ مسلمٍ ، بعدَ ذكرِ الأحاديثِ : قولُه : [ قالَ لأصْحابِ الحِجْرِ ] أي قال في شأنِهِم ، وكان هذا في غزوةِ تبوكَ ، قال : وفيهِ الحثُّ على المراقَبَةِ عندَ المرورِ يديارِ الظالمينَ ، ومواضِعِ العذابِ . ومثلُه الإسراعُ في وادي محسِّرٍ لأنَّ أصحابَ الفيلِ هَلَكُوا هناكَ ، فينبغي للمارِّ في مثلِ هذه المواضعِ : المراقبةُ والخوفُ والبكاءُ ، والاعتبارُ بهم وبمصارِعِهِم ، وأن يستعيذَ بالله من ذلكَ .

وقولُه : ( ثم زَجَرَ حتى خَلَّفَها ) أي : زَجَرَ ناقتَه ، ومعناه : ساقَها سوقاً كثيراً ، حتى خلَّفَها ، أي : جاوَزَ المساكنَ .

قال : وفي هذا الحديثِ فوائدُ ، منها : النَّهْيُ عن استعمالِ مياهِ بيارِ الحِجْرِ إلا بئرَ الناقةِ . ومنها : لو عَجَنَ منه عَجيناً لم يأكُلْهُ ، بل يَعْلِفُه الدوابَّ . ومنها : أنه يجوزُ عَلَفُ الدابةِ طعاماً مع مَنْعِ الآدَمِيِّ من أكلِه . ومنها : مُجانَبَةُ آبارِ الظالمينَ ، والتبرُّكُ بآبارِ الصالحينَ .

قلتُ : ليسَ في الحديثِ ما يُفيدُ التبَرُّكُ بآبارِ الصالحينَ ، وإنما الشُّرْبُ من بئرِ الناقَةِ كالشُّربِ من أيِّ بئرٍ ليسَتْ لملعونِينَ .

ذكرُ فعلِه r في وادي محسِّرٍ .

روى الإمامُ مسلمٌ ، عن جابرٍ t قال [ في حديثِ الحجِّ الطَّويلِ ] : ( حتى أتى بطنَ مُحَسِّرٍ ، فحَرَّك قليلاً ) .

قال النوويُّ في الشرحِ : ( محسِّر ) سُمِّيَ بذلكَ ، لأنَّ فيلَ أصحابِ الفيلِ حَسَرَ فيه ، أي : عَيِيَ وكَلَّ . قال : أما قولُه ( فحرَّكَ قَليلاً ) فهي سنةٌ من سُنَنِ السَّيْرِ في ذلكَ الموضِعِ . قال أصحابُنا : يُسرِعُ الماشي ، ويحرِّكُ الراكبُ دابّتَه ، في وادي مُحَسِّرٍ ، ويكونُ على قَدْرِ رَمْيَةِ حجرٍ ، والله أعلم([30]) .

مما سَبَقَ يتبيَّنُ أن مَنْ مَرَّ بهذه الأماكنِ الملعونةِ ، أسرَعَ السَّيْرَ لِيَتَجاوَزَها ، حتى لو كانتْ مسافةً قصيرةً لا تتجاوَزُ رميةَ حجرٍ ، وأن مَنْ دَخَلَ أماكنَ هؤلاءِ القومِ الملعونينَ أثناءَ مُرورِه وَجَبَ عليه البكاءُ ، فإن لم يَبْكِ فلْيَنتَظِرْ احتمالَ وقوعِ اللعنةِ به ، وليعرِّضْ نفسَه للوقوعِ في نهيِه r ، وهذا لمَنْ مرَّ عارِضاً – ويا سبحانَ الله – لا أدري : ماذا يكونُ لمن قَصَدَ هذه الأماكنَ للزيارةِ ، وبدعاوى باطلةٍ ، مخالفاً لهديه r ، وهو الأتقى والأبَرُّ والأعلمُ بما يقرِّبُ من الله وما يباعِدُ عنه . وفوقَ ذلك : من يَشُدُّ الرِّحالَ فيسافِرُ ليرى هذه الأماكنَ الملعونةَ ، ويقضي فيها الأوقاتَ الطويلةَ ! وليبشر هذا بوُقوعِه في نهيٍ آخَرَ ، وهو الموضوعُ الآتي :

نهيُ النبيِّ r عن شَدِّ الرِّحالِ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ

عن أبي هريرةَ t مرفوعاً : " لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ : المسجدِ الحرامِ ، ومسجدي هذا ، والمسجِدِ الأقصى " . ( متفق عليه ) .

قال النوويُّ في " شرحِ مسلمٍ " : واختَلَفَ العلماءُ في شَدِّ الرِّحالِ ، وإِعمَالِ المَطِيِّ إلى غيرِ المساجِدِ الثلاثةِ ، كالذهابِ إلى قبورِ الصالحينَ ، وإلى المواضعِ الفاضلةِ ، ونحوِ ذلكَ . فقالَ الشيخُ أبو حامدٍ الجُوَيني [ من أصحابِنا ] : هو حرامٌ ، وهو الذي أشارَ القاضي عياضُ إلى اختيارِه .

والصحيحُ عندَ أصحابِنا ، وهو الذي اختارَهُ إمامُ الحَرَمَينِ والمحققُون : أنه لا يحرُمُ ولا يُكرَهُ

قالوا : والمرادُ : أن الفضيلةَ التامَّةَ إنما هي في شَدِّ الرحالِ إلى هذه خاصة([31]) .  

قلتُ : ولا يخفَى ضعفُ ما رجَّحَه النوويُّ رحمه الله ، لما سيأتي بيانُه .

وقال ابنُ حَجَرَ في " فتح الباري " : " لا تُشَدُّ الرحالُ " بضَمِّ أوَّلِه بلفظِ النَّفْيِ ، والمرادُ النَّهيُ عن السَّفَرِ إلى غيرِها .

قال الطيبيُّ : هو أبلَغُ من صريحِ النَّهْيِ .

قال : قولُه : " إلا " استثناءٌ مُفَرَّغٌ ، والتقديرُ : لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلى موضعٍ ، ولازِمُه منعُ السفرِ إلى كلِّ موضعٍ غيرها ، لأن المستثنى منه المفرَّغ مقدَّرٌ بأعَمِّ العامِ ، لكن يمكنُ أن يكونَ المرادُ بالعمومِ هنا الموضعَ المخصوصَ ، وهو المسجدُ ، كما سيأتي([32]) .

ثم ذكرَ بعدَ ذلكَ الخلافَ بنحوِ الذي نقله النوويُّ .

والذي يُؤَيِّدُ ما ذهبَ إليه الجويني ، والقاضي عياضٌ ، وغيرُهم مثلُ : القاضي حسن ، وابنُ تيميةَ ، فَهْمُ الصحابيَّيْنَِ الجليلَين : أبي هريرةَ ، وابنِ أبي بصرةَ [ جميلِ بنِ بصرةَ ] ، وكذلك : ابنِ عمرَ رضي الله عنهم ، فقد وردَ في طرقِ الحديثِ رواياتٌ توضحُ ذلك ، منها ما رواه مالكٌ ، وأحمدُ ، عن محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارِثِ التيمي ، عن أبي سلمةَ ، عن أبي هريرةَ قال : ( خرجتُ إلى الطورِ .. فلَقِيتُ بصرةَ بنَ أبي بصرةَ الغفاريِّ ، فقال : من أينَ أقبلتَ ؟ فقلت : من الطورِ ، فقال : لو أدْرَكْتُكَ قبلَ أن تخرجَ إليه ما خَرَجْتَ ، سمعتُ رسولَ الله r يقولُ : " لا تُعمَلُ المطيُّ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ ، إلى المسجدِ الحرامِ ، وإلى مسجدي هذا ، وإلى مسجدِ إيلياءَ [ أو بيتِ المقدِسِ ] يشكُّ " . الحديث .

وأخرجه النسائيُّ من طريقِ مالكٍ . وأخرجه أيضاً ابنُ حبانَ . وله طرقٌ ذكرَها الشيخُ الألبانيُّ في " إرواءِ الغليلِ "([33]) و " السلسلةِ الصحيحةِ "([34]) و " أحكامِ الجنائزِ "([35]) .  

وما رواه الأزرقيُّ في " أخبارِ مَكَّةَ " ، وأورَدَ المرفوعَ منه الهيثميُّ في المجْمَعِ ، وقال : رواهُ الطبرانيُّ في " الكبيرِ " و " الأوسطِ " ، ورجالُه ثقاتٌ ، عن قَزْعَةَ ، قال : ( أردْتُ الخروجَ إلى الطورِ ، فسألتُ ابنَ عُمَرَ ، فقال : أما عَلِمْتَ أن النبيَّ r قال : " لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ : المسجدِ الحرامِ ، ومسجدِ النبي r ، والمسجدِ الأقصى " ، ودَعْ عنكَ الطورَ ، فلا تَأتِهِ

وقال الشيخُ الألبانيُّ في " أحكامِ الجنائزِ "([36]) : إسنادُه صحيحٌ ، رجالُه رجالُ الصحيحِ .

ومما سَبَقَ يتَبَيَّنُ أنه لا يجوزُ شدُّ الرِّحالِ إلى الأماكِنِ الفَاضلةِ ، مثلُ : جَبَلِ الطّورِ ، للتقَرُّبِ إلى اللهِ بذلكَ ، ومَظَنَّةُ الثوابِ إذا ذهبَ إليه . فهل يَعقِلُ عاقلٌ أن شدَّ الرحالِ إلى مثلِ هذه الأماكنِ الملعونةِ فيه عِظَةٌ وقربةٌ إلى الله ، فيَشُدَّ الرحالَ إليها . لا شكَّ هو أدخلُ في نَهْيِ الحديثِ السابِقِ من الذاهِبِ إلى أماكنِ الوحْيِ والتجَلَّياتِ الإلهيةِ .

تَبَيَّنَ لنا مما مَرَّ : حكمُ التعامُلِ معَ هذه الأماكنِ بالأحاديثِ الصحيحةِ ، من قولِه وفعلِه r ، ومِنْ عَمَلِ عليٍّ t ، في موضِعِ الخسفِ ببابل ، وأنه رَفَضَ أن يصليَ في هذا المكانِ ، وهو من أخْشَعِ الناسِ وأتقاهم . والصحاببيُّ الذي ليسَ له مخالِفٌ : إجماعٌ عندَ كثيرٍ من العلماءِ ، ويُعتَبَرُ دليلاً قوياً عند غيرِهم ، إذا لم يخالِفْ حديثاً ، فكيفَ وهو يوافِقُه([37]) .  

بقيَ أن ندَحَضَ بعضَ الشبهاتِ التي قد تَتَطَرَّقُ إلى أذهانِ بعضِ الناسِ ، والتي بالفعلِ احْتَجَّ بها بعضُهم :

وهذه القضيةُ تتعلقُ بالنَّقْدِ من ناحيةِ المتنِ .

1ـ قالوا : إن الله تعالى يقولُ : ¼ N?èS¤kY©WTÊ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£ñÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TVÒ fû      ?VÒ SàW?YÍTHTWÆ fû      kY?PY¡VÑSÙ<Ö@? » ([38]) .. وها نحنُ نفعَلُ ما أمَرَ به الله تعالى ، لِنَتَّعِظَ وننظُرَ في عاقِبةِ مَنْ سَبَقَ من الأممِ المكذِّبَةِ .

فنقولُ وبالله التوفيقُ : إنه قد وَرَدَتْ آياتٌ كثيرةٌ قريبةٌ في المعنى من هذهِ الآيةِ ، وتبلُغُ ستَّ آياتٍ بلفظِ الأمْرِ ، وسبعَ آياتٍ بلفظِ المضارِعِ ، وهي :

¼ `?TWTÎ p?VÕW? ÝYÚ óØRÑYÕ`?VÎ cÝWTÞSª N?èS¤kY©WTÊ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£RÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍHTWÆ WÜkY?PY¡VÑSÙ<Ö@? »(137)([39]) .

¼ `ÔSTÎ N?èS¤kTYª Á X³`¤KKV?ô@? JðyRT� N?èS£TTñÀ¹Tß@? ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍHTWÆ WÜkY?PY¡VÑSÙ<Ö@? »(11)([40]) .  

¼ N?èS¤kY©WTÊ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£ñÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TVÒ fû?VÒ SàW?YÍTHTWÆ fû      kY?PY¡VÑSÙ<Ö@?   » ([41]) .

¼ `ÔSTÎ N?èS¤kYTª Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£ñÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~ðÒ WÜ?VÒ SàW?YÍTHTWÆ WÜkYÚX£`�SÙ<Ö@? »(69)([42]) .

¼ `ÔSTÎ N?èS¤kYª Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£RÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TW{ VK?W?W? &WÌT<ÕW?<Ö@?  » ([43]) .

¼ `ÔSTÎ N?èS¤kTYª Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£ñÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍHTWÆ WÝÿY¡PVÖ@? ÝYÚ S&Ô`?TWTÎ » ([44]) .

¼ `yVÕWTÊVK? N?èS¤kY©Wÿ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£ñÀ¹ÞWT~WTÊ ðÈ`~TVÒ fû       ?VÒ Sà?YÍHTWÆ WÝÿY¡PVÖ@? ÝYÚ p%yXäYÕ`?TWTÎ » ([45]) .

¼ `yVÕWTÊVK? N?èS¤kY©WTÿ Á X³`¤KKV?ô@? WÜéRÑW?WTÊ óØSäVÖ t?éSTÕSÎ WÜéRÕYÍ`ÅWTÿ :?WäYT?  » ([46]) .

¼ `yVÖWèVK? N?èS¤kY©WTÿ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£ñÀ¹ÞWT~WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍHTWÆ ðÝÿY¡PVÖ@? ÝYÚ &óØXäYÕ`?WTÎ vN?éSTß?W{ Jð?TW®KV? óØSä`ÞTYÚ _áQWéSTÎ N?èS¤?WT�VK?Wè ð³`¤KKV?ô@? » ([47]) .

¼ `yVÖWèKV? N?èS¤kY©WTÿ øYÊ X³`¤KKV?ô@? N?èS£RÀ¹ÞWT~WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍTHTWÆ WÝÿY¡PVÖ@? ÝYÚ óØXäYÕ`?WTÎ vN?éSTß?W{Wè PV?W®KV? óØSä`ÞYÚ _&áQWéSTÎ  » ([48]) .

¼ ! óØTVÖWèKV? N?èS¤kY©WTÿ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£ñÀ¹ÞWT~WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍTHTWÆ WÝÿY¡PVÖ@? N?éSTß?VÒ ÝYÚ p&yXäYÕ`?TWTÎ N?éSTß?VÒ óØSå Jð?TW®KV? óØSä`ÞYÚ ^áQWéSTÎ  » ([49]) .

¼ óØVÕWTÊVK? N?èS¤kY©WTÿ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£RÀ¹ÞWT~WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍTHTWÆ fÛ      TÿY¡PVÖ@? ÝYÚ &`ØXäYÕ`?WTÎ vN?éSß?VÒ W£WT�`{KV? óØSä`ÞYÚ Jð?TW®VK?Wè ^áQWéSTÎ  » ([50]) .

¼ ! `yVÕWTÊVK? N?èS¤kY©Wÿ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£RÀ¹ÞWT~WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍTHTWÆ WÝÿY¡PVÖ@? ÝYÚ p&yXäYÕ`?TWTÎ W£QWÚW  JðS/@? `$ØXä`~VÕWÆ WÝÿX£YÉHTVÑ<ÕYÖWè ?WäSTÕHTWT�`ÚVK? »(10)([51]) .

وجميعُ هذه الآياتِ في سورٍ مَكِّيَّةٍ ، ما عدا التي في : آلِ عمرانَ ، والحجِّ ، ومحمدٍ . وجميعُها خطابٌ للمشركينَ الكافرينَ المعاندينَ لدعوتِه r ، باتِّفاقِ المفسرينَ تقريباً ، كما في تفسيرِ " فتح القدير " للشوكاني ، وابنِ كثيرٍ ، والطبريِّ ، و " روحِ المعاني " للآلوسي ، و" الزمخشري " ، و " التحرير والتنوير " للطاهِرِ ابنِ عاشور ، وغيرٍِهم . ما عدا الآية التي في آل عمرانَ فاختَلَفَ فيها المفسِّرونَ ؛ فجعَلَها صاحبُ " فتحِ القدير " للشاكّينَ في سُنَنِ الله في كَوْنِهِ ، وذلكَ لأنه قالَ : الفاءُ إما سَبَبِيةٌ ، وإما شَرطيةٌ ، أي : إن شَكَكْتُم فسيروا ، وقال : هذا قولُ أكثرِ المفسرينَ([52]) .

وقال الطبريُّ : ( فسيروا أيها الظانّون أنَّ إدالَتي مَنْ أَدَلْتُ من أهلِ الشِّركِ يومَ أحٌدٍ ، على محمدٍ وأصحابِه لِغَيْرِ استدْراجٍ مِني ، لمنْ أشْرَكَ بي وكَفَرَ برُسُلِي )([53]) .

وقال صاحبُ " روحِ المعاني " : ( الفاءُ للإيذانِ بسبِبِه الخلوِّ للسَّيْرِ والنَّظَرِ ، أو الأمر بهما ) وقيل : المعنى على الشرطِ ، أي : إن شَكَكْتُم فَسيروا . والخطابُ – على كلِّ تقديرٍ – مساقٌ للمؤمنينَ . وقال النقاش : للكفارِ ، وفيه بُعدٌ )([54]) .

وجعله الزمخشريُّ للكفارِ ، حيث قالَ : ( في قولِه بعدَها : ¼ ?W¡HTWå cÜ?W~WT? X§?PVÞÕYPÖ  » إيضاحٌ لسوءِ عاقبةِ ما هُمْ عليه من التَّكذيبِ ، يعني حَثَّهُم على النَّظَرِ في سوءِ عواقِبِ المكذِّبينَ قبلَهم ، والاعتبارِ بما يعانونَ من آثارِ هلاكِهم )([55]) .

وقال أبو حيانَ : ( الخطابُ للمؤمنينَ .. ثم قالَ : وقال النقاشُ : الخطابُ للكفارِ ، لقوله بعدُ : ¼ ?W?Wè N?éSÞXäWT?  » ([56]) ) .  

ثم ذكرَ المفسرونَ كذلكَ الأقوالَ في المرادِ بالنظَرِ .

قال الشوكانيُّ : ( المطلوبُ من هذا السَّيْرِ المأمورِ به : حصولُ المعرفةِ بذلكَ ؛ فإن حَصَلَتْ بِدُونِهِ فقد حَصَلَ المقصودُ ، وإن كان لمشاهدَةِ الآثارِ زيادةٌ غيرُ حاصلةٍ لمنْ لمَ يشاهِدْها )([57]) .

وقال الطبريُّ : ( فانظروا كيف كانَ عاقبةُ تكذيبهم أنبيائي ، وما الذي آلَ إليه عن خلافِهم أمري ، وإنكارِهم وَحْدانِيَّتي )([58]) .

وقال الزمحشريُّ : ( حَثَّهُم على النَّظَرِ في سوءِ عواقِبِ المكذبينَ )([59]) .

وقال الطاهرُ ابنُ عاشورٍ : (¼ N?èS¤kY©WTÊ » أي : المكذبينَ بِرُسُلِ ربهم ، وأريدَ النظرُ في آثارِهم ، ليحصُلَ منه تَحَقُّقُ ما بَلَغَ من أخبارِهم ، أو السؤالُ عن أسبابِ هلاكِهم ، وكيفَ كانوا أولي قوةٍ ، وكيف طَغَوْا .. ) . وقال : ( وفي الآيةِ دليلٌ على أهميةِ علمِ التاريخِ ، لأنه فيه فائدةُ السيرِ في الأرضِ ، وهي معرفةُ أخبارِ الأوائِلِ ، وأسبابِ صلاحِ الأممِ وفسادِها ) .

قال ابنُ عَرَفَةَ : ( السيرُ في الأرضِ حِسِّيٌّ ومَعنَوِيٌّ ، والمعنويُّ هو : النَّظَرُ في كُتُبِ التاريخِ ، بحيثُ يحصُلُ للناظرِ العلمُ بأحوالِ الأممِ ، وقد لا يحصُلُ بالسيرِ في الأرضِ لعَجْزِه وقُصورِه )([60])  

وقال ابنُ كثيرٍ – في آيةِ الأنعامِ - : ( فَكِّروا في أنفُسِكُم ، وانْظُروا ما أَحَلَّ الله بالقرونِ الماضيةِ ، الذين كَذَّبوا رُسُلَه وعانَدوهم ، من العذابِ والنَّكالِ والعقوبةِ في الدنيا ، مع ما ادَّخَرَ لهم من العذابِ الأليمِ في الآخرةِ ، وكيفَ نَجّى اللهُ رسلَه وعبادَه المؤمنينَ )([61]) .

وقالَ فيها الألوسيُّ في " روحِ المعاني " : ( المرادُ من النظرِ : التَّفَكُّرُ ، وقيلَ : النظرُ بالأبصارِ . وجَمَعَ بينهما الطبرسيُّ ، بناءً على القولِ بجوازِ ذلكَ )([62]) .

وقال أبو حيان : ( وطَلَبُ السَّيْرِ في الأرضِ ، وإن كانتْ أحوالُ مَنْ تَقَدَّمَ تُدرَكُ بالأَخبارِ دونَ السَّيْرِ ، لأنَّ الأخبارَ إنما تكونُ ممنْ سارَ وعايَنَ ) . وعنه ( فطُلِبَ منه الوجهُ الأكملُ ، إذ للمشاهدةِ أثرٌ أقوى من السماعِ ) . وقيلَ ( السيرُ هنا مجازٌ عن التفَكُّرِ ، وهو من تَشبيهِ المعقولِ بالمحسوسِ ) .

وقال الجمهورُ : ( النَّظَرُ هنا ، نظرُ العَيْنِ ) . وقال قومٌ : ( هو الفِكْرُ ) .

ثم قالَ : ( وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على جوازِ السَّفَرِ في فِجاجِ الأرضِ للاعتبارِ ، ونظرِ ما حَوَتْ من عجائبِ مخلوقاتِ الله تعالى ، وزيارةِ الصالحينَ ، وزيارةِ الأماكنِ المعظَّمَةِ ، كما يفعلُه سُيّاحُ هذه الملةِ ، وجوازِ النظرِ في كتبِ المؤرِّخِينَ ، لأنها سبيلٌ إلى معرفةِ سيرِ العالم ، وما جرى عليهِم من الْمَثُلاتِ )([63]) .

قلتُ : ليسَ في الآيةِ ذِكرٌ لزيارةِ الصالحينَ ، ولا الأماكنِ المعظَّمَةِ ، وهذا قد أتى طَرَفٌ منه منذُ قليلٍ .

وقال الرازي : ( لما وَعَدَ الله على الطاعةِ والتوبةِ من المعصيةِ : الغفرانَ والجَنّاتِ ، أَتبعَه بذكرِ ما يحمِلُهم على فِعلِ الطاعةِ ، وعلى التَّوبةِ من المعصيةِ ، وهو تَأَمُّلُ أحوالِ القرونِ الخاليةِ ، منَ المطيعينَ والعاصينَ ، فقال : ¼ `?TWTÎ p?VÕW? ÝYÚ óØRÑYÕ`?VÎ cÝWTÞSª  » , وقال : ( المرادُ من الآيةِ : قَدْ انْقَضَتْ مِن قبلِكم سننُ الله تعالى في الأممِ السالِفَةِ . واختَلَفُوا في ذلكَ ، فالأكثرونَ من المفسرينَ على أنَّ المرادَ : سُنَنُ الهلاكِ والاسْتِئْصالِ ، بدليلِ قولِه تعالى : ¼ N?èS£RÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍHTWÆ WÜkY?PY¡VÑSÙ<Ö@?  » ([64]) .

قال : ( فَرَغَّبَ الله تعالى أمةَ محمدٍ r في تأمُّلِ أحوالِ الماضينَ ، ليصيرَ ذلك داعياً لهم إلى الإيمانِ بالله ورسلِه ، والإعراضِ عن الرياسةِ في الدنيا ، وطلبِ الجاهِ . قال : ¼ N?èS£RÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TVÒ WÜ?VÒ SàW?YÍHTWÆ WÜkY?PY¡VÑSÙ<Ö@?  » لأنَّ التأمُّلَ في حالِ أَحَدِ القِسْمَيْنِ ، يكفي في معرفَةِ حالِ القسمِ الآخَرِ .

وقال : ( ليسَ المرادُ بقوله : ¼ N?èS¤kY©WTÊ Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£RÀ¹ß@?WTÊ  » الأمرَ بذلك لا محالةَ ، بل المقصودُ تعرُّفُ أحوالِهم ، فإنْ حَصَلَتْ هذه المعرفةُ بغيرِ السيرِ في الأرضِ كان المقصودُ حاصِلاً ، ولا يمتَنِعُ أن يقالَ أيضاً : إنَّ لمشاهَدَةِ آثارِ المتقدمينَ أثراً أقوى من أثرِ السَّماعِ )([65]) .

وخلاصةُ القولِ : أنَّ الخطابَ في الآياتِ للمشركينَ ، أو الشَّاكّينَ في نصرِ الله للمؤمنينَ ، وإعلاءِ دينِه ، وذلكَ لما حَولَ الآيةِ من آياتٍ تُوَضِّحُ ذلكَ ، هذا بالإضافةِ إلى أنه لو كان للمؤمنينَ نصيبٌ فيها ، ولو ضئيلٌ ، لكنا جميعاً مـأمورينَ بذلك ، ولكان أوَّلَ من طَبَّقَ ذلك : النبيُّ r وأصحابُه ، حيث أن أصلَ الأمرِ الوجوبُ ، ولكنْ كما مضى : عَرفنا أنه لم يفعلْ ذلكَ ، بل نهى عنه ، وحذَّرَ من الدخولِ عليهم .

فإن قيلَ : عَدَمُ فِعلِه r ذلكَ وأصحابِه قرينةٌ تصرفُ الأمرَ إلى النَّدْبِ .

فيقالُ : هل يَعقِلُ عاقِلٌ أن يُغَطِّيَ النبيُّ r رأسَه ، ويسرعَ السيرَ ، تاركاً لما نَدَبَ الله في ثلاثةَ عشرَ آية ، فضلاً عن إنكارِه ذلك على الصحابةِ رضي الله عنهم ، حين أرادوا التعجُّبَ منهم ؟

ثم يستمرُّ الصحابةُ على ذلكَ ، وقد سَبَقَ أثرُ عليٍّ t ، ولم يُؤْثَرْ عن أحدٍ منهم – أو مِن تابِعيهم ، أو من تابعي تابعيهم ، أو من الأئمةِ والعلماءِ بعدَهم – حثٌّ على ذلكَ ، أو رَغَّبَ فيه ، أو نَدَبَ الناسَ إليه ، فلا شكَّ أن هذا الأمرَ بدعةٌ من البِدَعِ المنكَرَةِ ، المخالِفَةِ للهَدْيِ النَّبَوِيِّ ، والتي انْتَشَرَتْ عندما رَقَّ الدينُ في قلوبنا ، وذهَبَتْ الرهبةُ من نفوسِنا .

ثم إن المقصودَ بالنظرِ : التفكرُ ، وخصوصاً لمن مَرَّ على هذه الأماكنِ ، لأن النظرَ المحضَ لا يفيدُ أيَّ شيءٍ ، حيثُ أن الناظِرَ إلى ديارِ المسلمينَ والمؤمنينَ الذين مَضَوْا : يَجِدُها وقد عَفَتْ آثارُها ، وبَدَتْ أطْلالاً مثلَ ما يراه في ديارِ المشركينَ والملعونينَ ، ولكنَّ العبرةَ بالتَّفَكُّرِ ، وهذا يؤخَذُ من نفسِ الآياتِ ، لأنَّ الكفارَ رَأَوْا ذلك بأبصارِهم ، فقال تبارَك وتعالى : ¼ `yVÕWTÊVK? N?èS¤kY©WTÿ Á X³`¤KKV?ô@? WÜéRÑW?WTÊ óØSäVÖ t?éSTÕSÎ WÜéRÕYÍ`ÅWTÿ :?WäYT? `èVK? bÜ?V¢??ò WÜéSÅWÙpT©WTÿ $?WäYT? ?WäPVTßXM?WTÊ ?W? øWÙ`ÅWT? S£HTTW±`T?VK?ô@? ÝYÑHTVÖWè øWÙ`ÅWT? ñ?éSTÕSÍ<Ö@? øY?PVÖ@? Á Y¤èS?Jñ±Ö@? »(46) ( الحج ، آية : 46 ) .

ويؤيِّدُ ذلكَ ، أن الناظرَ بعينيه ، لا يرى العاقبةَ ، حيثُ أنَّ ما حَلَّ بهم قد انتهى منذُ أمدٍ بعيدٍ ، وإنما يرى آثارَ أممٍ سَلَفَتْ ، والهدفُ : أن يسأَلَ عن أحوالها ، ويُجيلَ فكرَه في عاقِبَتِها ، فيعلمَ أن عاقِبَتَه مثلَها إذا كَذَّبَ مثلَ أهلِها .

أما مَن قال ، إن الرؤيةَ لها أثرٌ أكثرُ من السماعِ ، فنَعَمْ ، ولكن إن كانَ سيرى ما حلَّ بهم من نِقمَةٍ وعذابٍ ، كأن يرى بعينيه قريةَ قومِ لوطٍ يُجْعَلُ عالِيَها سافِلَها ، فهنا تَزيدُ الرؤيةُ على السماعِ .

أما مَنْ شاهَدَ أرضَ خرابٍ ، فأيُّ رؤيةٍ هنا أقوى من الإخبارِ ؟! .. فتأمَّلْ ذلكَ جَيداً ..

والمقصودُ بالسيرِ : السيرُ بالعَقْلِ والفِكْرِ ، وليسَ المقصودُ أن يجوبَ الأرضَ طُولاً وعَرْضاً ، شمالاً وجنوباً ، فهذا ما لا فائدةَ فيه ، ولن يستطيعَه .

وهذه الآياتُ خَاطَبَتْ المشركينَ ، فيما رَأَوْهُ في طُرُقِ تجارَتهم ورَحلاتهم من آثارِ الأممِ الماضيةِ ، فحُثُّوا على التَّفَكُّرِ في هذه الأممِ ، ويؤيِّدُ ذلكَ قولُه تبارك وتعالى : ¼ ?WäPVTßMX?Wè wÔ~Y?W©Y?VÖ ]y~YÍSQTÚ »(76)([66]) ¼ ?WÙSäPVTßXM?Wè xz?WÚXM?Y?VÖ xÜkY?SQTÚ  » ([67]) ¼ fûQW      kTW?WT?Wè óØRÑVÖ ðÈ`~ðÒ ?WTÞ<ÕfTTTTÅWTÊ `yXäY? ?WTÞ`T?W£W¶Wè SØRÑVÖ WÓ?WT�`ÚVK?ô@?  » ([68]) ¼ ÝQYTÿVK?VÑWTÊ ÝYQÚ ]àWTÿó£WÎ ?WäHTWTÞ<ÑVÕ`åKV? ?øYåWè bàWÙYÖ?ðÀº ?øgäWTÊ dàWÿXè?W? uøVÕWÆ ?WäY®èS£SÆ w£`LùYT?Wè xàVÕPV¹WÅTQSÚ w£p±WTÎWè ]?~Y­TQWÚ »(45)([69]) ¼ ðÐ<ÕY?WTÊ óØSäS?éS~ST? W=àWTÿYè?W? ?WÙYT? %N?;éTSÙWTÕVÀº  » ([70]) ¼ ðÐ<ÕY?WTÊ óØSäSÞYÑHHTW©WÚ `yVÖ ÝVÑpT©ST? ?ÝYQÚ óØYåY?`ÅWT? ?PV?MX? _$?~YÕWTÎ ?QWTÞS{Wè SÝ`Tmìð? fû      kYT�X¤?Wé<Ö@? » ([71]) ¼ ?_ ?WÆWè N?W éSÙV�Wè ?TWÎWè fûPV      kWT?PV? ØS|VÖ ÝYQÚ $óØXäYÞY|HTTW©WQÚ  » ([72]) ¼ `yRÑPVßMX?Wè WÜèQS£SÙW?VÖ ØXä`~VÕWÆ WÜkY?Y?p±QSÚ (137) X%Ô`~TPVÖ@?Y?Wè ð?WTÊKV? WÜéSTÕYÍT`ÅWT? »(138)([73])  .  

وجميعُ هذه الآياتِ خاطَبَتْ الكفارَ والمشركينَ .

ومِنَ الأدِلَّةِ على استخدامِ النَّظَرِ ، والسيرِ في الأرضِ بمعنى إجالَِةِ الفِكرِ : قولُه تبارك وتعالى : ¼ `ÔSTÎ N?èS¤kYª Á X³`¤KKV?ô@? N?èS£RÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TW{ VK?W?W? &WÌT<ÕW?<Ö@?  »([74]) وهذا لا يمكنُ رؤيتُه بحالٍ من الأحوالِ . وقوله : ¼ XÔSTÎ N?èS£TñÀ¹ß@? ?V¢?WÚ Á g?.WéHTWÙQW©Ö@? &X³`¤KKV?ô@?Wè ?WÚWè øYÞpTçÅTST? ñ?HTWTÿ???@? S¤S¡PRÞÖ@?Wè ÝWÆ xzóéWTÎ ?PV? WÜéSÞYÚ`ëSTÿ »(101)([75]) وقولُه تبارك وتعالى : ¼ N?éSÙVÕðÀ¹WTÊ $?WäY? ó£ñÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TVÒ fû      ?VÒ SàW?YÍTHTWÆ WÝÿY?Y©pTÉSÙ<Ö@?  » ([76]) وقوله تبارك وتعالى : ¼ ?WTßó£ð¹`ÚKV?Wè ØXä`~VÕWÆ $?_£ð¹QWÚ ó£TTñÀ¹ß@?WTÊ ðÈ`~TW{ fû      ?VÒ SàW?YÍTHTWÆ fû      kYÚX£`�SÙ<Ö@? »(84)([77]) وغيرُ ذلكَ كثيرٌ  جداً  .

قال ابنُ منظورٍ في " لسان العرب " : ( النَّظَرُ : الفِكرُ في الشيءِ ، تُقدِّرُه وتَقيسُه منكَ )([78])  

ومع ذلكَ ، فلو سَلَّمْنا جَدَلاً : أن المرادَ السيرُ بالأقدامِ في نواحي الأرضِ ، وأن النظرَ بالعينِ ، وأن الخطابَ للمؤمنينَ ، فليس في الآية ما يستدعي الدخولَ على هؤلاءِ الملعونينَ ، وقضاءَ الأوقاتِ في مساكِنِهم ، بل إن ذلكَ يَتِمُّ بمجرَّدِ المرورِ العابِرِ ، والنَّظَرِ من بعيدٍ ، مع الخوفِ والرَّهبَةِ ، والتفَكُّرِ في عاقِبتِهم ، من غيرِ أن نخالِفَ أوامِرَ نَبيِّنا r ، وننأى عن هديِ سَلَفِنا الصالحِ

ـ شُبهةٌ ثانيةٌ :

قد ادَّعَى البعضُ أن فِعلَه r قد يكونُ مَنسوخاً بالآياتِ ، وهذا واضحُ البُطلانِ كما لا يخفى على القارئ ، لأن جميعَ الآياتِ السابقةِ نزلَتْ قبلَ غزوةِ تبوكَ بسنواتٍ ، بل مُعظَمُها قبلَ الهجرةِ .

ـ شبهةٌ ثالثةٌ :

قالَ البعضُ : المرادُ بالبكاءِ في الحديثِ : الخُشوعُ ، وهذا يُرَدُّ من أوجهٍ عديدةٍ :

أ ـ المظنونُ بالصحابةِ رضي الله عنهم أنهم إذا دَخَلوا مكاناً حَلَّتْ فيه لعنةُ الله أن يكونوا في غايةِ الخشوعِ ، والرسولُ r يعلمُ ذلك من أصحابه ، فما فائدةُ الأمرِ بما هو كائنٌ ؟

ب ـ إن هذا التأويلَ صرفٌ لكلامِ الشارعِ عن معناهُ الحقيقيِّ ، إلى معنىً آخرَ ، بلا دليلٍ على ذلك .

ج ـ إن الشَّرّاحَ الذين شَرَحُوا الحديثَ لم يتعَرَّضْ أحدٌ منهم إلى هذا المعنى ولو بإشارةٍ طفيفةٍ ، وهم العُمدةُ في ذلكَ .

د ـ إن هذا التأويلَ فاسدٌ من جهةِ اللغةِ ، إذ أنَّ البكاءَ لا يتأتى – في لغةِ العَرَبِ – بمعنى الخشوعِ . والمتَدَبِّرُ لما وَرَدَ في القرآنَ والسنةِ من لفظِ البكاءِ يَعلم ذلك .

وقد ذَكَرَ صاحبُ " لسانِ العربِ " المواضِعَ التي يُستَعْمَلُ فيها لفظُ البكاءِ ، ولم يتعرَّضْ لذلكَ بَتاتاً ، مع أنه معروفٌ بالإتيانِ بالمعاني المجازِيَّةِ للكلِمَةِ([79]) ، وكذلك صاحبُ " أساسِ  البلاغة "([80]) ، ومع هذا فمَنْ أتانا بدليلٍ على صرفِه في هذا الحديثِ عن الظاهِر قَبِلْنا .. وهيهات!!

وتعقيباً على قولِه r : " أن يصيبَكم ما أصابهم " ، أودُّ أن أذكرَ شيئاً يتعلقُ بهذا ، ولو أن المراجِعَ في ذلك لا تُسعِفُني لنُدْرَتها ، أو لعَدَمِ وجودِها في المملكةِ .

وأبدأ حديثي عن شيءٍ يسمّى : [ لعنةَ الفراعنةِ ] .

ما هي لعنةُ الفراعنة ؟!

لعنةُ الفراعنةِ : قضيةٌ مشهورةٌ في مصرَ ، بينَ كلِّ مَنْ له اطّلاعٌ في الآثارِ والبحثِ والتنقيبِ عنها . وهناك كُتُبٌ كاملةٌ مؤلَّفٌة في هذا المضمارِ ، وهي تتكلَّمُ عن رحلاتٍ كشفيةٍ كاملةٍ ، قد تختفي تماماً أثناءَ التنقيبِ عن آثارِ الفراعنةِ الهالكينَ ، وقد يصابُ بعضُ أفرادِها بشَلَلٍ أو عمى ، أو غيرِ ذلك من الإيذاءِ ، الذي كثيراً ما يَصِلُ إلى الموتِ ، مما حَيَّرَ علماءَ الآثارِ والمهتمينَ بها .

وأذكرُ أن آخرَ ما وصلوا إليه – فيما قرأتُ – أن في هذه المقابرِ ألواناً على الجدرانِ لها إشعاعاتٌ ذَرِّيَّةٌ ، تُميتُ الداخلَ ، أو تُصيبُه بإصاباتٍ خطيرةٍ ، وهذا القولُ – طبعاً – ممن لا دينَ لهم ، وهم على هذا في تَخَبُّطٍ رهيبٍ ؛ كيفَ تَوَصَّلَ الفراعنةُ الذين كانوا يحارِبونَ بالسِّهامِ والعرباتِ ذات الخيولِ إلى الإشعاعاتِ الذرية ، وكيف حَمَوْا أنفسَهم منها ، حتى خرجوا من المقبرة ؟!

وأما أنا – ولعلَّ كثيراً يوافِقُني – أقولُ : إن هذا الذي يحدُثُ – إن صَحَّ – فهو من أثَرِ نقماتِ الله ولعناتِه في هذه الأماكنِ ، وحتى لو ثَبَتَتْ فكرةُ الإشعاعاتِ تكون الطريقةَ التي أراد اللهُ أن يُحِلَّ بها لعنَتَه على من حَلَّ بهذه البقاعِ الملعونةِ ، وهي تلكَ الإشعاعاتُ ، وعلى أيٍّ ، فلا أجزِمُ بذلك ، ولكنه احتمالٌ غيرُ بعيدٍ .

هذا شيءٌ ... وأُثَنّي بشيءٍ آخرَ :

[ مثلثُ برمودا([81]) ، ومثلثُ فرموزا([82]) ]

منطقتانِ تقعان في  المحيطِ الأطلسي ، إذا مَرَّ عليهما سفينةٌ أو طائرةٌ أو أيُّ شيءٍ اختفى بمن فيه ، بلا أثرٍ . وهذه المسألةُ من أشهرِ المسائلِ في الأوساطِ التي تهتمُّ بمثلِ هذا . ولها احتمالاتٌ من وجهةِ النظرِ الدينيةِ :

1ـ أن يكونَ فيها الجزيرةُ التي فيها " المسيحُ الدجالُ " كما وردَ في حديثِ تميمٍ الداريِّ بمسلمٍ .

2ـ أن يكونَ فيها عرشُ إبليسَ ، كما وَرَدَ في الصحيحِ .

3ـ أن الجنَّ هو الذي يخْتَطِفُها ، وهذا بَعيدٌ لعَدَمِ وُجودِ الدواعي لذلكَ .

4ـ أن تكونَ أماكنَ ملعونةً ، حدثَ فيها خسفٌ وعذابٌ ، فكلُّ من وَقَعَ فيها أصابه نصيبٌ منها ، وذلك ما له تعلُّقٌ ببابنا .

مسألةٌ ثالثةٌ :

ما ذُكِرَ في السيرةِ في قصةِ نزولِ الحِجرِ : روى ابن إسحاقَ بسندٍ رجالُه ثقاتٌ ، عن ابنِ الصحابيِّ الجليلِ سهلِ بنِ سعدٍ الساعدي واسمُه العباسُ ، أن النبيَّ r عندما مَرَّ بالحِجْرِ أمَرَ الصحابةَ ألا يخرُجَ أحدٌ منهم وحدَه في الليلِ ، فخَرَجَ رجلانِ من بني ساعدة ، خرج أحدُهما لحاجَتِه ، وخرجَ الآخرُ في طلبِ بعيرٍ له . فأما الأوَّلُ فإنه خُنِقَ ، على مَذْهَبِه . والآخرُ احْتَمَلَتْه الريحُ فطَرَحَتْه بجبالِ طيء ، فدَعا r للأوَّلِ فشُفِي ، وأما الآخرُ فقد أهْدَتْه طيءٌ للرسولِ r . وكان العباسُ يعرِفُ اسمَ الرَّجُلَين([83]) ، وهذا مرسَلٌ صحيحٌ .

ولولا أن المرسلَ لا يُحْتَجُّ به على التحقيقِ من أقوالِ العلماءِ ، لجَعَلْنا هذا الحديثَ في صدورِ البحثِ ، فهو حجةٌ لمن يحتَجُّ بالمرسَلِ ، وشاهدٌ لمن لا يحتَجُّ به .


 

الخاتِمَةُ

الخلاصَةُ ، أنه :

1ـ لا يجوزُ شَدُّ الرِّحالِ إلى هذهِ الأماكنِ الملعونَةِ بَتاتاً ، ولا قَصْدُها للزيارَةِ .

2ـ من مَرَّ بها يُفَضَّلُ له سرعةُ السيرِ ، حتى يجاوزَها ، ويجبُ عليه ألا يشرَبَ من مائِها ، ولا يأخُذَ منه شيئاً ، ويُسَنُّ أن يغطيَ وجهَه حتى لا يراها ، فإذا وقَعَ بصرَه عليها استعاذَ بالله من أن يُصيبَه مثلُ ما أصابَ قومَها ، ويتفَكَّرُ في عاقِبتهم ، وكيفَ أهلَكَهُم الله جلَّ وعلا ، كما أخبرَنا نبيُّنا r .

3ـ من مَرَّ بها ، لا يَدْخُلُها أبداً إلا أن يكونَ باكياً ، فإن لم يتمكَّنْ من أن يَظَلَّ باكياً طوالَ مدةِ بقائه داخلَها ، فحذارِ أن يدخُلَها .. ومن فَعَلَ ، فلا يَلومَنَّ إلا نفسَه ، حيثُ وَقعَ في الحرامِ ، وعَرَّضَ نفسَه للَّعْنَةِ والعذابِ .

وفي هذا البابِ أحاديثٌُ غيرُ التي ذكرتها ، ولكني اقتصَرْتُ على الصحيحِ ، الذي لا مَغمَزَ فيه ، ومن أرادَ الاستزادةَ ، فليرْجِعْ إلى المراجِعِ المذكورةِ .

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين .


 

ملحقٌ هامٌ

الحمدُ لله ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله ، أما بعدُ :

فبعدَ كتابةِ هذه الرسالةِ بمدةٍ ، وقفتُ على كلامٍ لشيخِ الإسلامِ ابن تيميةَ في ذلكَ ، فأردتُ نقلَ ما يتعَلَّقُ ببَحْثِنا هذا ، لتعضِيدِ ما توصَّلْتُ إليه .

قال رحمه الله في " اقتضاء الصراط المستقيمِ مخالفةَ أصحابِ الجحيم " ص 80 و 81 و 82 بعد أن نقلَ بعضَ الأحاديثِ ، قال : ( ... فنَهى رسولُ الله r عن الدخولِ إلى أماكنِ المعذَّبينَ إلا معَ البكاءِ ، خشيةَ أن يصيبَ الداخلَ ما أصابهم ، ونهى عن الانتفاعِ بمياهِهم ، حتى أمرهم – مع حاجَتِهم في تلكِ الغزوةِ ، وهي غزوةُ العسرةِ – وهي أشدُّ غزوةٍ كانت على المسلمينَ – أن يعَلفِوا النواضِحَ بعجينِ مائِهم .. ) ثم ذكر رحمه الله آثارَ عليٍّ في خسفِ بابل ، ثم قال : ( وقد روى الإمامُ أحمد – في رواية ابنِه – بإسنادٍ أصح من هذا ، عن عليٍّ t نحواً من هذا ، أنه كَرِهَ الصلاةَ بأرضِ بابل ، وأرضِ الخسفِ ، ونحوِ ذلك .. وكره الإمامُ أحمدُ الصلاةَ في هذه الأمكنة اتباعاً لعلي t .

وقوله : " نهاني أن أصليَ في أرضِ بابل ، فإنها ملعونةٌ " يقتضي ألا يصليَ في أرضٍ ملعونةٍ ، والحديثُ المشهورُ في الحِجْرِ يوافِقُ هذا ، فإنه إذا كان قد نهى عن الدخولِ إلى أرضِ العذابِ ، دَخَلَ في ذلكَ الصلاةُ وغيرُها من بابِ أولى ) .. ثم قال : ( وهذا ، كما أنه نَدَبَ إلى الصلاةِ في أمكنةِ الرحمةِ ، كالمساجِدِ الثلاثةِ ، ومسجِدِ قباء ، فكذلك نهى عن الصلاة في أماكن العذاب ) . وقال : ( فإذا كانت الشريعةُ قد جاءتْ بالنهيِ عن مشاركةِ الكفارِ في المكانِ الذي حلَّ بهم فيه العذابُ ، فكيفَ بمشارَكَتِهم في الأعمالِ التي يعملونها ، واستحقُوا بها العذابَ ) .

انتهى ما أردنا نقلَه من كلامِه رحمه الله .

وقال البيهقيُّ في " السنن 2/451 ، في باب : من كَرِهَ الصلاةَ في موضِعِ الخسفِ والعذابِ " بعد أن ذكرَ آثارَ عليٍّ في خسفِ بابل : ( هذا النهيُ عن الصلاةِ فيها – إن ثَبَتَ مرفوعاً – ليسَ لمعنى يرجِعُ إلى الصلاةِ ، فلو صلى فيها لم يُعِدْ ، وإنما هو والله أعلم ، كما حدثنا .. ) الخ ، فذكرَ أحاديثَ الحجرِ ، ثم قال : ( فأحَبَّ الخروجَ من تلكَ المساكنِ ، وكرِهَ المقامَ بها إلا باكياً ، فدخلَ في ذلكَ المقامِ الصلاةُ وغيرُها ، وبالله التوفيق ) .

وقال ابنُ حزمٍ رحمه الله في المسألة : ( لا يَحِلُّ الوضوءُ من ماءِ بئرِ الحِجرِ ، وهي أرضُ ثمود ولا الشربُ ، حاشا بئرَ الناقةِ فكلُّ ذلك جائزٌ منها ) ثم روى بعضَ ما مضى من الأحاديثِ بإسناده . ( انظر المحلى 1 / 295 ، 296 ) .


 

 

 

 

تعقيبٌ على رسالةِ

[ حِجرُ ثمودَ : ليسَ حِجْراً محجوراً ]

لسماحةِ الشيخِ عبدِ الله بنِ زيدً آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية بقطر

 

 

 

كتبه

محمد بن رزق الطرهوني


 

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمينَ ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله ، أما بعدُ :

فقد يَسَّرَ الله لي الوقوفَ على رسالةٍ لسماحةِ الشيخِ عبدِ الله بنِ زَيدٍ آلَ محمود ، رئيسِ المحاكمِ الشرعيةِ بقطر ، يردُّ فيها على العلماءِ المانعينَ من سكنى الحِجْرِ ، والانتفاعِ بأرضِه ومياهِه ، وسماها ( حِجرُ ثمود : ليس حِجراً محجوراً ) . ولما وَجَدْتُه في هذه الرسالةِ من مغالطاتٍ وتَخْطِئَةٍ لكبارِ العلماءِ – بدونِ أيِّ أدلةٍ أو براهين – رأيتُ أنه من المنفعةِ أن أعلِّقَ تعليقاً مختصراً لبيانِ الحقِّ في ذلك – فإن كانَ حالفَني الصوابُ فالحمدُ لله ، وإن جانبني فأستغفر الله ...

وأريدُ أن أنبَه على أنني لم أُرِدْ بذلك انتقاصَ الشيخِ ، وقد اجتَهَدَ ليصِلَ إلى الحقِّ ، فإن كان قد أصابَ فله أجران ، وإن كان قد أخطأ – وهو الذي يبدو لي والله أعلم – فله أجرٌ . وقد اكْتَفَيْتُ بالردِّ على ما يخصُّ موضوعُنا ، وتركتُ بعضَ أشياءٍ لم أتَعَرَّضْ لها لبُعدِها عما أريدُ ، والله الموفقُ للصوابِ .

( قضيةُ استيطانِ حِجْر ثمود ، وهل هو جائزٌ أم محظورٌ ؟ )

قال الشيخُ – بعد أن ساقَ أحاديثَ البخاري - : ( وموضعُ الاستدلالِ من الحديثِ هو : إثباتُ كونِ النبيِّ r نزلَ بأصحابِه الحجرَ ، وأنه لو كان في نزوله حرجٌ ، أو أنه متأثِّرٌ بنزولِ السخطِ – كما يظنُّ بعضُ الناسِ – لما نَزَلَ النبي r فيه بأصحابِه ، وإذَنْ لأوجَبَ الله على نبيه صالح والمؤمنينَ معه أن يهاجِروا عنه ، فبإثباتِ نزولِ النبي r فيه بأصحابِه ، واستقرارِ نبيِّ الله صالح والمؤمنين فيه ، يتبينُ بهذين الدليلينِ : صحةُ السَّكَنِ فيه ، بدليلِ الكتابِ والسنة ، بدون كراهةٍ ، لاعتبارِ أن أرضَ الحجرِ هي طرفٌ من أرضِ الله ، التي خَلَقَها لعبادِه ، وبَسَطَها لهم )

( أقولُ ) وبالله التوفيقُ : أما نزولُ النبي r الحجرَ بهذا الإطلاقِ ، فلا شكَّ أنه غيرُ صحيحٍ ، وأكثرُ الرواياتِ الواردةِ بلفظِ المرورِ .. وجمعاً بين الرواياتِ يقالُ : إن النبي r نزلَ حولَ المنطقةِ حيثُ الآبارُ التي كانوا يَسْتَقُون منها ، ويدُلُّ على ذلكَ روايةُ أحمد التي فيها : " .. نَزَلَ بهم الحجرَ عندَ بيوتِ ثمود " ولم يقل ( فيها ) .

ويدل على ذلك روايةُ البخاريِّ : أنه أسرَعَ السيرَ حتى أجازَ الوادي . ونهيُه الصحابة عن الدخولِ عليهم ، وكذلك ارتحُاله من عندِ آبارِهم إلى بئرِ الناقة : كلُّ ذلكَ يدلُّ على أنه نَزَلَ على مشارِفِ الحجرِ ، وليس داخلَ أراضي هؤلاءِ الملعونينَ .

وأرادَ الشيخُ أن يردَّ على ابنِ حَجَرَ قولَه : ( لم يَنْزِلْ ، ولم يُصَلِّ هناك ) . فقال : ( فهذِه الشبهةُ التي راجَتْ على الحافظِ ابنِ حَجَرَ ، قد راجَتْ على كثيرٍ من العلماءِ ، حيث قالوا بمَنْعِ السكنى به ، لظنِّهم أنه مَرَّ رسولُ الله r بالحِجر مسرعاً ، ولم ينزلْ به ) .

( وأقول ) : هذه ليستْ بشبهةٍ ، ولكنها حقيقةٌ ، يُقِرُّها قولُه : " ثم أسرَعَ السيرَ حتى أجازَ الوادي " .

وعلى أن النزولَ على مشارفِ الحجرِ : يُحْمَلُ كلامُ ابنِ حَجَرَ حينَ شرحَ الحديثَ مرةً أخرى ، في كتاب المغازي – وقد أخطأ الشيخُ فنسبَه إلى كتابِ الأنبياء – حين قال ابنُ حجر : ( وزعم بعضُهم أنه مَرَّ بالحِجرِ ولم ينزلْ به ) ، ويردُّه التصريحُ في حديثِ ابنِ عمرَ .. وقد جعله الشيخُ سهواً من ابنِ حَجَرَ ، ولكن يبدو أن الذي نفاهُ هو نزُوله الوادي الملعون ، والذي أثبَتَه نزولُه عند البيوتِ ، بما يصدُق عليه قولُه " نَزَلَ الحجرَ " .

ويحتَجُّ الشيخ على جوازِ سكنِ هذه الأرضِ بأن نبيَّ الله صالحاً ومن معه سكنوها ، وهذا قولٌ عارٍ عن الدليلِ ، بل نجزِمُ بأنهم خرجوا منها ، وظلَّتْ هي بجثثِ الملعونينَ الجاثمينَ ، قال تبارك وتعالى : ¼ ðÐ<ÕY?WTÊ óØSäSÞYÑHHTW©WÚ `yVÖ ÝVÑpT©ST? ?ÝYQÚ óØYåY?`ÅWT? ?PV?MX? _$?~YÕWTÎ ?QWTÞS{Wè SÝ`Tmìð? fû      kYT�X¤?Wé<Ö@? » . أيْ : لم يَسْكُنْها أحدٌ بعدَهم ، إلا زَمناً قليلاً ، كالذي يمرُّ بها مسافراً ، فإنه يلبَثُ فيها يوماً أو بعضَ يومٍ .. وقد يكونُ المرادُ أنَّ مَنْ يسكُنُ فيها لم يبقَ إلا أياماً قليلةً ، بسببِ شُؤمِها ، وما وَقَعَ فيها من معاصِيهم , وهذا قولُ عامَّةِ المفسرينَ([84]) .

وقولُه : ¼ ?QWTÞS{Wè SÝ`Tmìð? fû      kYT�X¤?Wé<Ö@?  » : صارَت خَراباً ليسَ فيها أحدٌ .

وقال تعالى : ¼ ðÐ<ÕY?WTÊ óØSäS?éS~ST? W=àWTÿYè?W? ?WÙYT? %N?;éTSÙWTÕVÀº » ، وأما قوله :  ¼ óØS?ÞVÑWªWè Á XÝY|HTW©WÚ WÝÿY¡PVÖ@? N?;éTSÙWTÕVÀº `ySäW©SÉßKV? fûQW      kTW?WT?Wè óØRÑVÖ ðÈ`~ðÒ ?WTÞ<ÕfTTTTÅWTÊ `yXäY? ?WTÞ`T?W£W¶Wè SØRÑVÖ WÓ?WT�`ÚVK?ô@? »(45)([85]) فهو إنكارٌ منه تبارك وتعالى  ، خلافاً للشيخِ ، وذلك واضحٌ لمن تدبَّرَ التعبيرَ ، بقوله : ¼ XÝY|HTW©WÚ WÝÿY¡PVÖ@? N?;éTSÙWTÕVÀº `ySäW©SÉßKV?  » فإن ذلكَ تشنيعٌ لقَسوَةِ قلوبهم ، فقد أنكرَ عليهم نزولهَم في أسفارِهم وغيرِها في هذه الأماكنِ التي تَبَيَّنَ لهم ما حَلَّ بها ، والتي لا يستطيعُ شخصٌ رقيقُ القلبِ أن يعيشَ فيها ويأنَسَ لها ، ولكنهم سكنوها ، وساروا فيها بسيرةِ هؤلاءِ . والذي يؤيِّدُ ذلك قولُه r : " لا تدخُلوا مساكنَ الذين ظلموا أنفسَهم أن يصيبَكُم ما أصابهم ، إلا أن تكونوا باكينَ " . وقال الحسن : المعنى في : ¼ óØS?ÞVÑWªWè Á XÝY|HTW©WÚ WÝÿY¡PVÖ@? N?;éTSÙWTÕVÀº `ySäW©SÉßKV?  » : عَمِلْتُم بمثلِ أعمالِهم([86]) .  

وأما كونُها أرضاً من أراضي الله ، فالنصُّ يخصِّصُها ، ولا مانِعَ ، وذلك لما فيها من لعنةٍ وشؤمٍ .

* هذا .. ثم أرادَ أن يجعلَ من مَنَعَ سُكناها كتسييبِ السوائبِ !.. ومع فسادِ هذا القياسِ ، فهناك دوابٌ حُرِّمَتْ ، وشابَه تحريمها ما كان في السوائبِ ، لورودِ النصِّ بها مثل الجلالة ، فهذه كذلك : وردَ فيها النصُّ .

* أمرُه r بالبكاءِ لمن دخَلَها : أوَّلَه بما لا دليلَ له عليه ، وبآراءٍ محضةٍ ، فقال : ( أما نهيُ النبي r من دخولِ مساكنِ المعذَّبينَ إلا أن يكونوا باكينَ ، فإن له سبباً ، وذلك أن الله سبحانه ، قد أوجَبَ على المؤمنينَ إذا كانوا مع رسولِ الله في أمرٍ جامعٍ ، بأن لا يذهَبوا حتى يستأذِنوه . ثم جعلَ هذا مُتَرِتِّباً على شعورِ النبي r في بعضِ أصحابِه التأخر عن الغزوةِ ، وأنه لأجلِ هذه الأسبابِ أحبَّ أن يغرِسَ في قلوبِ الصحابةِ تعظيمَ أمرِ الله ورسولِه ، ووجوبَ طاعتِه .. ) إلخ .

فيُغني كلامُه هذا عن ردِّهِ ، وقال : ( لا يُوجَدُ في الشرعِ بكاءٌ محمودٌ واجبٌ ) .

( فنقول له ) : بل في الشرعِ ذلك ، وهو ما وَرَدَ في تلكُمُ الأحاديثِ ، وذَكَرَ الأمرَ بالسيرِ في الأرضِ ، وسبقَ ردُّه في البحثِ .

وما دامَ وُجِدَ بكاءٌ محمودٌ مندوبٌ ، فما المانِعُ من وجودِه واجباً . قال تعالى :  ¼ WÜèQS£Yðmïm?Wè gÜ?WTÎ<¢VpK?YÖ fû      éRÑ`?WTÿ `ySåS?ÿX¥WTÿWè ?_ÆéS­S? " »(109) ( الإسراء : 109 ) .

* واحتَجَّ على جوازِ السَّكَنِ بقوله تبارك وتعالى : ¼ uvøW?`èVK?WTÊ óØXä`~WTÖXM? óØSäQST?W¤ QWÝVÑYÕ`äSÞWTÖ fû      kYÙYÕHTJðÀ¹Ö@? (13) SØRÑQWTÞWÞY|p©SÞWTÖWè ð³`¤KKV?ô@? ?ÝYÚ &óØYåY?`ÅWT? » ([87]) وليسَ في  الآية أن ذلكَ الإهلاكَ سيكونُ باللعنةِ والاستئصالِ ، بل ربما بإدالةِ المؤمنينَ عليهم ، كما حَدَثَ في عهده r ، أو بإخراجِهم منها ، ثم إهلاكِهم ، كما فعلَ بفرعونَ وقومِهِ ، أو بضعفِ شَوكَتِهم على مَرِّ الزمانِ ، فيستخلفَ المؤمنون فيها .

وكذلك ، فإن تعميمَ لفظِ الأرضِ ، يدُلُّ على أن المرادَ ظهورُ المؤمنينَ عليهم ، وسيطرتهم على المعمورةِ .

* واحتَجَّ كذلك بقوله تبارك وتعالى :  ¼ `yVÒ N?éS{W£WT? ÝYÚ x?HTPVÞW� xÜéS~SÆWè »(25) ... إلى قوله : ¼ ð$ÐYÖ.V¡VÒ ?WäHTWTpÞ�W¤`èVK?Wè ?[Ú`éWTÎ WÝÿX£W???ò »(28)([88]) .  فهذا في قومِ فرعونَ ، وقد أخرجَهم الله فأهلكهم بالغرقِ .

* ومن أعجبِ ما احتَجَّ به قولُه تبارك وتعالى : ¼ óØRÑWT�W¤`èVK?Wè óØSäð¶`¤VK? óØSåW£HTWTÿY Wè  ... » ([89]) فما أدري ما دخلُ  هذه الآيةِ في البلادِ التي حَلَّتْ بها اللعناتُ ؟!!

* الشربُ من مياهِ الحِجرِ ، والوضوءُ به ، وغيرُ ذلك :

أخذَ في تأويلِ النصوصِ ، ولن أقف معه في الوضوءِ ، ولكنْ سأقفُ معه في ردِّه ما صحَّ عن رسولِ الله r بالرأيِ الفاسدِ ، وتعليلِه لنهيه عن الشربِ منها ، وإراقَةِ مياهِها ، بأن فيها موادٌ سامةٌ !.. ويا لها من نكتةٍ غريبةٍ ..!! كيفَ كان يشرَبُ قومُ ثمودَ وصالحٌ عليه الصلاة والسلام والمؤمنون منها قبلَ ذلك ، فلم يهلَكوا ؟! فوالله : لو صحَّ ما قالَ ، لكان ذلكَ من آثارِ لعنةِ الله تبارك وتعالى على هؤلاء القومِ .

* ثم طعنَ الشيخُ في ابنِ إسحاقَ ، وقال : ( هو ضعيفٌ عند المحدثين ) .. وهذه أعجبُ ما ذكره في البحثِ ، فابنُ إسحاق : إمامٌ في السيرةٍِ والمغازي ، صدوقٌ في روايته ، بما يكادُ أن يكونَ اتّفاقاً عندَ جميعِ من أُثِرَ عنهم جرحٌ وتعديلٌ في الرجالِ ، ومن أرادَ تَبَيُّنَ ذلك فليراجِعْ " تهذيب التهذيب : في ترجمته ، وكذلك " تاريخ بغداد " .. ولم يؤخَذْ عليه إلا التدليس ، وهو أمرٌ لا يطعَنُ في صِدقِ الرجلِ ، ولا روايته ، إذا صرَّحَ بسماعِه من شيخِه .

والعجب : أنه احتَجَّ بروايته هو ، لنزولِه r الحجرَ – قبلَها بصفحاتٍ قليلةٍ – ثم أنكرَ فضيلته كونَ وجودِ صحابي أطارَتْه الريحُ وألْقَتْه بجبالِ طيء ، مع أن هذه الحادثةَ في صحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ ، وفي مسندِ أحمدَ ، وقد سبقَ بيانُ ذلك في البحثِ .

* ثم تكلَّمَ فضيلتُه فقال : ( إن نهيَه r عن ماءِ آبارِ ثمود ، هو نظيرُ نهيِه عن ماءِ تبوك ) فهذا القولُ واضحُ البطلانِ ، فإن بئرَ تبوك كانتْ عيناً صغيرةً ، فلما شربَ منها الرجلانِ كادَ الماءُ أن يختفيَ ، ونهيُه r عن الشربِ منها ، محدودٌ بقوله : " حتى آتي " .. وذلك أنه ببركته r فاضَ الماءُ غزيراً ، فما أدري كيفَ جعلهما بمعنىً واحدٍ .

* وأما الصلاةُ في الحجرِ : فردَّ أثَرَ عليٍّ بأنه رأيٌ منه وليسَ رواية ، فوالله : لفهمُ الإمامِ عليٍّ لأقوالِه r وعملُه بها ، أقوى وأرجحُ من فهمِه ، وهو صحابيٌّ ليسَ له مخالِفٌ ، وقد سبقَ الكلامُ عن ذلك . وهذا هو فهمُ الإمام البخاري كذلك .

* وتكلم على مدينَ ، فأقول له : كلُّ بلدةٍ أصابَتها لعنةٌ من الله تبارك وتعالى ، فاسْتَأصَلَ بها قومَها ، فهي ملعونةٌ ، حكمُها حكمُ هذه البلدةِ الخبيثةِ ، ولا فرقَ .

ويكفي هذا في الردِّ على كلامِه بشأنِ هذه القضيةِ ، فإن ما قَلَّ وكفى خيرٌ مما كَثُرَ وألهى .

ومن أرادَ الاستزادةَ فلْيَتَدَبَّرْ أقوالَه ، وسيتبيَّنُ له خطؤها إذا راجعَ الشروحَ وتابعَ أقوالَه بدقةٍ 

ولله تباركَ الحمدُ والمنةُ على ذلكَ .. وصلِّ اللهم على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .

( تم الكتاب بعونه تبارك وتعالى )


 

المراجع

1.    أحكام الجنائز وبدعها ـ محمد ناصر الدين الألباني ـ المكتب الإسلامي ـ مجلد واحد .

2.    الإحكام في أصول الأحكام ـ علي بن أحمد بن حزم ـ مكتبة عاطف ـ مجلدان .

3.    إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ـ محمد ناصر الدين الألباني ـ المكتب الإسلامي ـ 8 مجلدات .

4.    أساس البلاغة ـ محمود بن عمر الزمخشري ـ دار المعرفة ـ مجلد واحد .

5.    الإصابة في تمييز الصحابة ـ أحمد بن حجر العسقلاني ـ مكتبة الكليات الأزهرية ـ 7 مجلدات .

6.    الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ـ ابن كثير ـ شرح أحمد شاكر ـ دار الكتب العلمية ـ مجلد واحد .

7.    البحر المحيط ـ محمد بن يوسف أبي حيان ـ مكتبة ومطابع النصر الحديثة ـ 8 مجلدات .

8.    البداية والنهاية ـ ابن كثير ـ مكتبة المعارف ـ 7 مجلدات .

9.    تاريخ بغداد ـ لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي ـ دار الكتاب العربي ـ 14 مجلداً .

10.   التاريخ الكبير ـ محمد بن إسماعيل البخاري ـ دار الكتب العلمية ـ 9 مجلدات .

11.   التحرير والتنوير ـ محمد الطاهر بن عاشور ـ الدار التونسية للنشر ـ صدر منه 20 مجلداً .

12.   تعجيل المنفعة ـ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ دار الكتاب العربي ـ مجلد واحد .

13.   تفسير القرآن العظيم ـ ابن كثير ـ مكتبة التراث الإسلامي ـ 4 مجلدات .

14.   التفسير الكبير ـ فخر الدين محمد بن عمر بن حسين القرشي الرازي ـ دار إحياء التراث العربي ـ 16 مجلداً .

15.   تقريب التهذيب ـ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية ـ 12 مجلداً

16.   تهذيب التهذيب ـ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية ـ 12 مجلداًَ .

17.   جامع البيان ـ محمد بن جرير الطبري ـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ـ 12 مجلداً .

18.   الجرح والتعديل ـ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ـ مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ـ 9مجلدات .

19.   روح المعاني ـ السيد محمود الألوسي ـ دار الفكر ـ 10 مجلدات .

20.   روضة الناظر وجنة المناظر ـ عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ـ المطبعة السلفية ـ مجلد واحد .

21.   زاد المعاد في هدي خير العباد ـ محمد بن أيوب ابن القيم الجوزية ـ المطبعة المصرية ـ مجلد واحد

22.   سلسلة الأحاديث الصحيحة ـ محمد ناصر الدين الألباني ـ المكتب الإسلامي ـ صدر منها 4 مجلدات .

23.   سير أعلام النبلاء ـ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ـ مؤسسة الرسالة ـ صدر منه 17 مجلداً .

24.   السيرة النبوية ـ عبد الملك بن هشام ـ مكتبة التراث الإسلامي ـ مجلدان .

25.                       صحيح مسلم بشرح النووي ـ يحيى بن شرف النووي ـ المطبعة المصرية ومكتبتها ـ 6 مجلدات

26.   فتح القدير ـ محمد بن علي الشوكاني ـ دار المعرفة ـ 5 مجلدات .

27.   فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ مكتبة الرياض الحديثة ـ 13 مجلداًَ

28.   الكشاف ـ محمود بن عمر الزمخشري ـ دار الفكر ـ 4 مجلدات .

29.   الكنى والأسماء ـ الدولابي ـ المكتبة الأثرية ـ مجلد واحد .

30.   لسان العرب ـ محمد بن مكرم بن منظور ـ دار المعارف ـ 6 مجلدات .

31.   مثلث برمودا والأطباق الطائرة بين الحقيقة والأسطورة ـ رياض مصطفى العبد الله ـ دار الكتاب العربي ـ مجلد واحد .

32.   مثلث برمودا ومثلث فرموزا والأطباق الطائرة ـ رياض مصطفى العبد الله ـ دار الكتاب العربي ـ مجلد واحد .

33.   المعجم الكبير ـ الطبراني ـ مطبعة الأمة ـ بغداد ـ 20 مجلد .

34.   مسند الإمام أحمد ـ أحمد بن حنبل ـ دار الفكر ـ 6 مجلدات .

35.   المعجم المفهرس ـ لفيف من المستشرقين ـ مطبعة بريل ـ مدينة ليدن ـ 7 مجلدات .

36.   المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ـ محمد فؤاد عبد الباقي ـ دار إحياء التراث العربي ـ مجلد واحد .

37.   ميزان الاعتدال ـ شمس الدين الذهبي ـ دار المعرفة ـ 4 مجلدات .

 


 

([1]) الآية : 80 .

([2]) الآية : 85 .

([3]) الآية : 91 .

([4]) الآية : 81 .

([5]) الآية : 74 .

([6]) فتح الباري ( 1 / 530 ) .

([7]) فتح الباري ( 6 / 378 ، 379 ) .

([8]) فتح الباري ( 6 / 378 ، 379 ) .

([9]) فتح الباري ( 1 / 379 ) .

([10]) فتح الباري ( 1 / 379 ) .

([11]) فتح الباري ( 8 / 125 ) .

([12]) فتح الباري ( 8 / 381 ) وفي مختار الصحاح : ( والحجر أيضاً : منازل ثمود : ناحية الشام ، عند وادي القرى ) .

([13]) صحيح مسلم شرح النووي ( 18 / 110 ) .

([14]) مسند أحمد ( 2 / 117 ) عبد الصمد هو ابن عبد الوارث العنبري [ مولاهم ] أبو سهل ، البصري ، صدوق ثبت في شعبة ، من التاسعة ( التقريب 1 / 507 ) ، وصخر بن جويرية ، أبو نافع ، قال أحمد : ثقة ، وقال القطان : ذهب كتابه ثم وجده فتكلم فيه ، من السابعة ( التقريب 1 / 365 ) .

([15]) البداية والنهاية ( 5 / 11 ) .

([16]) يزيد بن هارون ، أبو خالد الواسطي ، ثقة متقن عابد ، من التاسعة ( التقريب 2/372 ) له ترجمة في ( تاريخ بغداد 14 / 337 برقم 7661 ) . والمسعودي : عبد الرحمن بن عبد الله ، صدوق ، اختلط قبل موته ، وضابطه : أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط ، من السابعة ( التقريب 1 / 487 ) . وإسماعيل بن أوسط ، أمير الكوفة ، وثقه ابن معين ، وقال ابن حبان : مات سنة سبع عشرة ومائة ( تعجيل المنفعة ص 34 ) ونقل عن الأزدي أنه كان من أعوان الحجاج ، وهو الذي قدم سعيد بن جبير للقتل . قلت : وهذا – إن صح – فلا يقدح قي روايته ، لأنه كان مأموراً ، ولعله تأول في ذلك ، ولنا : أنه ثقة في الرواية كما هو مقرر في المصطلح .

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال : وثقه ابن معين وغيره ، وذكره ابن حبان في الثقات ( 1 / 222 ) وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل : سألت أبي عنه فقال : يروى عنه ، وروى بإسناده عن الدارمي قال : سألت يحيى بن معين عن إسماعيل بن أوسط ، كيف حديثه ؟ فقال : ثقة ( 2 / 160 ) .

وقد راجعت ترجمة سعيد بن جبير في سير أعلام النبلاء ، فلم يذكر لإسماعيل بن أوسط دخلاً في قتله ، بل أرسل له الحجاج مباشرة من يأتي به ( 3 / 321-343 رقم 116 ) وذكر أن الذي قبض عليه والي مكة خالد بن عبد الله القسري ص 336 .

وهاشم بن القاسم : أبو النضر الليثي البغدادي : ثقة ثبت ، من التاسعة ، ( تقريب التهذيب ( 2 / 214 ) ( تهذيب التهذيب 11/ ص 18-19 ) .

وعمر بن مرزوق الباهلي : أبو عثمان البصري ، ثقة له أوهام ، من صغار التاسعة ( التقريب 2 / 78 ) ولم يذكره الخطيب فيمن دخل بغداد ( انظر تاريخ بغداد ) .

ومحمد بن أبي كبشة الأنماري ، ذكره ابن حبان في الثقات وقال : قدم الكوفة فكتب عنه فتياه البجلي وسالم بن أبي الجعد ، وهو أخو عبد الله بن أبي كبشة ( انظر تعجيل المنفعة ص 375 ) فمثل هذا يحسن حديثه لا سيما إذا كان هناك ما يشهد له ، لأن الترجمة المذكورة تدل على اشتغاله بالعلم حتى إنه كان يكتب فتياه ، وليس كأي مجهول يوثقه ابن حبان ، وخصوصاً أنه من التابعين ومن أبناء الصحابة .

([17]) مسند أحمد ( 4 / 231 ) .

([18]) التاريخ الكبير ( 1 / 346 رقم 1089 ) .

([19]) المعجم الكبير ( 12 / 340 ، 341 ) .

([20]) الكنى والأسماء ( 1 / 50 ) .

([21]) الإصابة ( 11 / 315 رقم 950 ) .

([22]) زاد المعاد ( 3 / 4 ) .

([23]) البداية والنهاية ( 5 / 11 ) .

([24]) قولي : علقه بصيغة التمريض ، لا يعني عدم ثبوت الحديث ، لأنه وقع بعض ذلك عند البخاري ، وهو صحيح ، وربما رواه مسلم . ( انظر الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ص 34 )

([25]) فتح الباري ( 1 / 530 )

([26]) قال ابن حجر في شرح الحديث في المغازي : زعم بعضهم أنه مر ولم ينزل ، ويرده التصريح في حديث ابن عمر : لما نزل الحجر .. ، فلعله قصد إثبات نزوله المنطقة ونفى نزوله داخل أرضهم ) .

([27]) فتح الباري ( 1 / 530 ، 531 ) .

([28]) الإحكام في أصول الأحكام ( 1 / 365 ) روضة الناظر وجنة المناظر ( ص 100 ، 101 ) .

([29]) فتح الباري ( 6 / 379 ، 380 ، 381 ) .

([30]) صحيح مسلم ( 5 / 105 ) ، باب سفر المرأة مع محرم للحج أو غيره .

([31]) صحيح مسلم ، شرح النووي ( 9 / 105 ) باب سفر المرأة مع محرم للحج أو غيره .

([32]) فتح الباري ( 3 / 63 ) كتاب فضل الصلاة في مسجد المدينة ومكة .

([33]) ( 4 / 141 رقم 970 ) .

([34]) ( 2 / 600 رقم 997 ) .

([35]) ص 224 .

([36]) ص 226 .

([37]) الإحكام في أصول الأحكام  1 / 735 ) .

([38]) سورة النحل : 36 ) .

([39]) آل عمران : 137 ) .

([40]) الأنعام : 11 ) .

([41]) النحل : 36 )

([42]) النمل : 69 ) .

([43]) العنكبوت : 20 .

([44]) الروم : 42 .

([45]) يوسف : 109 .

([46]) الحج : 46 .

([47]) الروم : 9 .

([48]) فاطر : 44 .

([49]) غافر : 21 .

([50]) غافر : 82 .

([51]) محمد : 10 .

([52]) فتح القدير للشوكاني ، عند الآية وأخواتها .

([53]) تفسير الطبري .

([54]) روح المعاني للآلوسي .

([55]) تفسير الكشاف للزمخشري .

([56]) البحر المحيط لأبي حيان .

([57]) فتح القدير للشوكاني ، عند الآية وأخواتها .

([58]) تفسير الطبري .

([59]) تفسير الكشاف للزخشري .

([60]) التحرير والتنوير ، الطاهر ابن عاشور .

([61]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير .

([62]) البحر المحيط لأب يحيان .

([63]) البحر المحيط لأبي حيان .

([64]) سورة آل عمران : 137 ) .

([65]) التفسير الكبير للرازي .

([66]) الحجر : 76 .

([67]) الحجر : 79 .

([68]) إبراهيم : 45 .

([69]) الحج : 46 .

([70]) النمل : 52 .

([71]) القصص : 58 .

([72]) العنكبوت : 38 .

([73]) الصافات : 137 ، 138 .

([74]) العنكبوت : 20 .

([75]) يونس : 101 .

([76]) الأعراف : 103 .

([77]) الأعراف : 84 .

([78]) لسان العرب ( 6 / 4466 ) .

([79]) لسان العرب ، مادة : بكى .

([80]) أساس البلاغة ، مادة : بكى .

([81]) انظر ( لث برمودا والأطباق الطائرة ، بين الحقيقة والأسطورة ) .

([82]) انظر ( مثلث برمودا ومثلث فرموزا والأطباق الطائرة ) .

([83]) سيرة ابن هشام ( 2 / 521 ) . وللفائدة : الذي في صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، ومسند الإمام أحمد ؛ أن الذي ألقته الريح بجبال طيء رجل واحد فقط خرج ليلاً وحده ، عندما حذر من ذلك النبي r لما قدم تبوك ، وليس نزول الحجر كما ذكر في هذه القضية . فربما حُملت على التعدد ، وإلا فالصحيح المسند مقدم . ( صحيح مسلم 15 / 43 ، ومسند الإمام أحمد 5 / 424 ) واحرص على الذي ذلك الذي ذكرته ، فالوصول إليه عزيز .

([84]) انظر فتح القدير ، وابن كثير ، والطبري ، والزمخشري .

([85]) سورة إبراهيم : 45 .

([86]) انظر فتح القدير ، وابن كثير ، والألوسي ، والتحرير والتنوير ، والزمخشري .

([87]) إبراهيم : 13 ، 14 .

([88]) الدخان : 25 – 29 .

([89]) الأحزاب : 27 .